الفروع على قاعدة ( التلفظ بالنية بدعة )
الحمد لله وبعد :ــ فهذه بعض الفروع على ما ذكرناه سابقا من التلفظ بالنبة بدعة :ــ منها :ــ أن قول الشافعي رحمه الله تعالى في الصلاة ( إنه لا يدخل فيها إلا بذكر ) لا يقصد به رحمه الله تعالى التلفظ بالنية كما فسره بذلك بعض أهل العلم ، بل يقصد رحمه الله أنه لا بد فيها من التكبير ، أي تكبيرة الإحرام ، فالذكر الوارد في كلام الإمام هنا يقصد به قول ( الله أكبر ) ولا يقصد به التلفظ بالنية ، أفاده أبو العباس وتلميذه العلامة ابن القيم ، رحمهما الله تعالى ، وعليه فيكون التلفظ بالنية قبل الشروع في الصلاة من المحدثات والبدع التي ما أنزل بها من سلطان ، والمخالفة لما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وهدي السلف الصالح ، والله أعلم.
ومنها :ــ أن قول من أراد النسك ( اللهم لبيك عمرة ) أو ( لبيك عمرة وحجا ) أو ( لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج ) ونحو ذلك مما يقوله الحاج والمعتمر عند الميقات ، هذا ليس من باب التلفظ بالنية ، وإنما هو قول شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد به الإخبار بالنسك ، فهو كالتكبير أول الصلاة ، فإنه قول شرع للإعلام بالدخول في الصلاة ، وكذلك هنا فإن هذه الأقوال أقوال شرعت للإخبار بالدخول في النسك ، فهو كقول ( اللهم إني صائم ) لمن شاتمه أو سابه أحد وهو صائم ن فهذا القول ليس من باب التلفظ بنية الصوم ، وإنما هو قول شرع للإعلام بحقيقة الحال ، وأنه ما حال بيني وبين الرد عليك إلا أنني امرؤ صائم ، وبيان ذلك أن الذي يريد الدخول في النسك لا يشرع في حقه أن يقول ( اللهم إني نويت أن أحج متمتعا ) مثلا ، فهذا هو التلفظ بالنية الذي نحن نمنعه ونعده من المحدثات والبدع ، وأما إن قال ( اللهم لبيك عمرة ، أو لبيك حجا ) فهذا ليس من التلفظ بالنية في شيء ، بل هو إخبار بالنسك وإظهار للإهلال ، المتضمن إشهار ذكر الله تعالى ، وعليه :ــ فلا حجة لأحد في هذه الأقوال ، لأنها ليست من باب التلفظ بالنوايا ، فانتبه لهذا فإنهم قد يحتجون به .
ومنها :ــ أن التلفظ بالنية في الوضوء والغسل من البدع والمحدثات التي ما أنزل بها من سلطان ، وليس عليها أثارة من علم النبوة ، ولا هو من هدي الكتاب والسنة ، ولا من هدي سلف الأمة وأئمتها ، والخير كل الخير في اتباع من سلف ، والشر كل الشر في ابتداع من خلف ، فكن مع السلف على الجادة إن كنت تريد النجاة ، فإن النجاة وقف على منهج السلف الصالح ، فمذهبهم هو سفينة النجاة ، التي من ركبها وتشبث بها نجا ، ومن أخطأها وضل عنها ، وتخلف عن ركوبها خاب وخسر وهلك ، والله أعلم .
ومنها :ــ أن قول القائل ( اللهم إني نويت أن أصوم غدا) من البدع والمحدثات ، لأنه تلفظ بالنية ، والتلفظ بها من البدع المنكرة ولا دليل عليه ، ولا برهان يؤيده ، بل هو اختراع من كيس من ابتدعه ، وتزيين من الشيطان الرجيم ، وإملاء من النفس الأمارة بالسوء ، فالواجب تركه والتوبة منه والحذر والتحذير من قوله ، والله أعلم .
ومنها :ــ لقد قرر أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أن من يتلفظ بالنية جهرا يؤذي المصلين أن الواجب نصحه ووعظه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ن فإن لم ينزجر ، فالواجب أن يعاقب العقوبة البليغة التي تردعه وأمثاله عن معاودة ذلك ، وإيذاء الناس في صلاتهم ، بل لو لم يندفع شره وضرره عن المسلمين إلا بقتله فيجوز قتله تعزيرا، فانظر كيف شدد فيها أبو العباس تشديدا كبيرا ، وهذا يفيدك أن الأمر خطير ، وأن العاقبة وخيمة ، والله أعلم .
ومنها :ــ من الأوجه التي يستفاد منها منع التلفظ بالنية ، أن الجهر بقراءة القرآن لا تجوز إن كانت على وجه تؤذي المصلين ، وتشغلهم عن مقصود صلاتهم ، وعلى الإقبال عليها ، مع أن القراءة أصلها من أعظم التعبدات وأحب القربات إلى الله تعالى، فإذا كان الجهر بما هو مشروع يمنع إن كان على وجه يؤذي الناس ، فكيف الحال مع الجهر بما هو بدعة ومحدثة أصلا إن كان على وجه يؤذي عباد الله في تعبداتهم ؟ لا شك أن الأمر أفظع وأفظع ، لأنه يكون بذلك قد جمع بين منكرين :ــ بين الابتداع في الدين ومخالفة سنة سيد المرسلين والتنكب عن هدي الصحابة الطيبين الطاهرين ن وبين إيذاء المصلين وانتهاك خشوع عباد الله الصالحين ، والاعتداء عليهم في مساجدهم ومواضع تعبداتهم ، أفلا يستحق مثل هذا العقوبة البليغة التي تردعه وأمثاله عن مثل ذلك ؟ بلى ورب الكعبة ، والله أعلم .
ومنها:ــ أن التلفظ بالنية في صلاة العيدين والكسوف والاستسقاء ن كل ذلك من المحدثات والبدع، لأنه ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو محدث في الدين ن وقد تقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد، والله أعلم.
ومنها :ــ أن التلفظ بالنية في صلاة الجنازة ، وتعيين الميت باللفظ ، فيقول ( نويت أن أصلي صلاة الجنازة على فلان بن فلا ن أو فلانة بنت فلان ، أو نويت أن أصلى على هذا الميت الحاضر ) ونحو ذلك من الألفاظ ، كله مما لا يجوز ، لأنه تلفظ بالنية ، والتلفظ بالنية من المحدثات والبدع ، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال " من أحدث في أمرنا هذا مل ليس منه فهو رد " متفق عليه ، والله أعلم .
ومنها :ــ أن التلفظ بنية أداء دفع الزكاة إلى مستحقيها من البدع المحدثة ، بل العزم على أدائها هو النية المشترطة لصحة الدفع ، وأما التلفظ بها فلا يشرع بحال ، باتفاق العلماء.
ومنها :ــ التلفظ بالنية في إخراج الكفارت والنذور كل ذلك من الممنوع لا المشروع ، لأن التلفظ بها من البدع المنكرة ن والأفعال المحدثة ، التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ن قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ( نية الطهارة من وضوء أو غسل أو تيمم ، والصلاة والصيام والحج والزكاة والكفارات وغير ذلك من العبادات لا تفتقر إلى نطق باللسان باتفاق أئمة الإسلام ، بل النية محلها القلب دون اللسان ) فهذه عشرة فروع تطلعك على ما وراءها مما لم يذكر ، ومن المناسب أن نختم الكلام على هذه القاعدة الطيبة بجمل من كلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ، فأقول :ــ قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( الجهر بالنية ليس مشروعا عند احد من علماء المسلمين ، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله أحد من خلفائه وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها ، ومن ادعى أن ذلك دين الله وأنه واجب ، فإنه يجب تعريفه الشريعة واستتابته من هذا القول ، فإن أصر على ذلك قتل ) وقال أيضا رحمه الله تعالى ( ومن جهر بالنية مخطئ مخالف للسنة باتفاق أئمة الدين ) وقال أيضا ( والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب باتفاق المسلمين ، بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشريعة إذا فعل ذلك معتقدا أنه من الشرع ، فهو جاهل ضال يستحق التعزير ) وقال أيضا ( واتفق العلماء على أنه لا يشرع الجهر بالنية ، لا لإمام ولا لمأموم ولا لمنفرد ، ولا يستحب تكريرها ) وقال أيضا ( وقال طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم :ــ بل لا يستحب التلفظ بالنية لا سرا ولا جهرا ، كما لا يجب باتفاق الأئمة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بالنية لا سرا ولا جهرا ، وهذا القول هو الصواب الذي جاءت به السنة ) وقال أيضا ( الجهر بالنية في الصلاة من البدع السيئة ، ليس من البدع الحسنة ، وهذا متفق عليه بين المسلمين ، لم يقل أحد منهم أن الجهر بالنية مستحب ولا هو بدعة حسنة ، فمن قال ذلك ، فقد خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأئمة الأربعة وغيرهم ، وقائل هذا يستتاب ، فإن تاب وإلا عوقب بما يستحقه ) وقال أيضا ( ولم يقل أحد إن صلاة الجاهر بالنية أفضل من صلاة الخافت بها سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا ، وأما التلفظ بها سرا فلا يجب أيضا عند الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين ، ولم يقل أحد من الأئمة :ــ إن المصلي عليه أن يقول بلسانه :ــ أصلي الصبح ، ولا :ــ أصلي العصر ، ولا :ــ أصلي الظهر ، إماما ولا مأموما ، ولا يقول بلسانه :ــ فرضا ولا نفلا ، ولا غير ذلك ، بل يكفي أن تكون نيته في قلبه ، والله يعلم ما في القلوب ، وكذلك نية الغسل من الجنابة والوضوء ، يكفي فيها نية القلب ) وقال أيضا ( واتفقوا على أنه لا يستحب الجهر بالنية ، ولا تكرير التكلم بها ، بل ذلك منهي عنه باتفاق الأئمة ) والله ربنا أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا