حكم التلفظ بالنية ، بالدليل والتعليل والتفريع

 

حكم التلفظ بالنية ، بالدليل والتعليل والتفريع


 

الحمد لله وبعد :ــ لقد تقرر عند أهل العلم ان التلفظ بالنية من البدع والمحدثات ، والدليل على ذلك عدة أمور :ــ الأول :ــ أن المتقرر عند عامة أهل العلم أن العبادة مبناها على التوقيف ، بحيث لا يجوز لأحد كائنا من كان أن يقول :ــ هذا القول أو هذا الفعل من العبادات إلا وعلى هذه الدعوى دليل من الشرع ، فإن جاء به صحيحا صريحا وإلا فقوله مردود عليه مضروب به في وجهه، والذين يتلفظون بأنها من العبادات القولية ، فلا بد حينئذ في إثبات التعبد بها من دليل فالسؤال الآن :ــ أين الدليل الدال على جواز التعبد لله تعالى بالتلفظ بالنية ؟ فإنه لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة ولا من فعل الصحابة ولا من فعل السلف الصالح ، وهذا النفي مبني على الاستقراء الكامل لكلامهم في هذا الفرع ، وحيث لا دليل على جواز التعبد لله تعالى بها ، فلا يمكن أن نقول إنها من العبادات ، بل هي من المحدثات والبدع ، لأن العبادة مبناها على التوقيف ، وحيث لا توقيف فيها فهي بدعة ، لأن البدعة هي التعبد لله تعالى بلا دليل ، وهذا واضح لمن هداه الله تعالى وترك التعصب .
الثاني :ــ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من احدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ، ولمسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " والتلفظ بالنية أمر لم يكن عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيكون من الأمور المردودة على فاعليها ، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذلك فلا يكون التلفظ بالنية من العبادات المشروعة ، بل هو من المبتدعات الزائغة الممنوعة ، والله أعلم .
الثالث :ــ أن التلفظ بالنية من شر الأمور لأنه محدثة في الدين ، فكيف يكون التلفظ بها من العبادات وهي من شر الأمور، فإن قلت :ــ وكيف عرفت أنها من شر الأمور ؟ فأقول :ــ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وشر الأمور محدثاتها " وقد قررنا أن التلفظ بها ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام ولا هو من هدي سلف الأمة وأئمتها ، وحيث كان الأمر كذلك فالتلفظ بها من شر الأمور ، وما كان شرا فإنه يكون ممنوعا لا مشروعا .
الرابع :ــ أن المتقرر في القواعد أن الاشتراط الشرعي مبناه على الدليل ، أي أنه لا يصح لأحد أن يشترط في العبادة شرطا قوليا أو فعليا ، سواء كان من شرط الصحة أو من شروط الكمال إلا وعلى هذا الاشتراط دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة ، ومن ربط الانتفاع بالنية بالتلفظ بها فقد اشترط ما لا دليل عليه ، بحيث إنه يقول :ــ إن مجرد وجود النية في القلب لا يكفي ، بل يشترط التلفظ بها حتى يتحقق الانتفاع بها ، وهذا اشتراط في عبادة ، والأصل فيه التوقيف على الدليل ، فأين الدليل الدال على صحة هذا الاشتراط ؟ بالطبع ليس هناك من دليل ، وحيث لا دليل فالأصل فيه المنع ، وعليه فيكون انقداح النية في القلب كاف في تحققها، ومن زعم انه لا بد من التلفظ فنقول له :ــ " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"
الخامس :ــ أن إكساب العبادة صفة خاصة لا بد من دليل خاص يثبت هذه المشروعية ، أي مشروعية هذه الصفة على وجه الخصوص ، والمتقرر أن النية من العبادات، والمتلفظون بالنية يجعلون الصفة الشرعية للنية هي التلفظ بها ، والصفة الشرعية للعبادة لا بد فيها من الدليل ، فأين الدليل الدال على أن الصفة الشرعية للنية هو أن يتلفظ بها على هذا الوجه المخصوص ؟ هذا مما لا دليل عليه ، ونحن نقسم بالله تعالى أنه مما لا دليل عليه ، فحيث لا دليل يدل على مشروعية هذه الصفة الخاصة ، فلا يجوز حينئذ أن تنسب إلى الشرع ، أي أن التلفظ بالنية ليست من الشرع لأنها صفة محدثة لا دليل عليها ، وما لا دليل عليه فليس من الشرع ، وما ليس من الشرع فهو محدث ومنكر وبدعة .
السادس :ــ أن الله تعالى لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين الشرع كله ، في عقائده وشرائعه ، وليس ثمة شيء من الشرع لا يزال لم يعرف ، فالله تعالى قد أكمل لنا الدين ببعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، فقد بلغنا البلاغ المبين ، وأتم الله به النعمة والدين ، فما لم يكن من الدين حينئذ فليس من الدين الآن ، فالتلفظ بالنية حقيقته إما أن يكون اتهاما للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم إكمال بيان الشرع ، وهذا قدح في بلاغه صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكون اتهاما له بكتمه ، وهذه طامة أعظم من الأولى ، لأن التهمة الأولى فيها نسبة النبي صلى الله عليه وسلم للجهل ، والتهمة الثانية فيها اتهامه صلى الله عليه وسلم بالخيانة في البلاغ ، وأي زندقة أعظم منها ،وإما أن يكون قدحا في الشرع بأنه لم يكمل حتى جاءنا هذا ببدعته هذه ، وهذا كفر لأنه تكذيب للقرآن في إخبار بكمال الدين ، وإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغها ، ولكن الصحابة قصروا في نقله أو كتموه، وهذا أمر لا يجوز أن ينسب إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكون من الأمور المحدثة التي ليس عليها برهان من الشرع وإنما شيء استحسنه من فعله ، وتلقفه منه من لا علم عنده بقواعد الشرع ، وزينه الشيطان في قلبه ، وهذا هو الحق في هذا الفرع ، أنه شيء محدث لا دليل عليه ، وإنما هو استحسان بارد ليس عليه أثارة من علم ولا هدى وأن الحق اطراحه ، وإخراجه من كتب الفقه ، إن كان في شيء منها ، لأنها كتب هداية ، والتلفظ بالنية ليس من الهدى ـ بل هو من الضلال والبدع المحدثة المنكرة شرعا وعقلا وفطرة .
السابع:ــ أن التلفظ بالنية في العبادات لو كان من الخير لدلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولسبقنا إليه من هم أحرص منا على الخير والهدى ، لكنه شيء لم يدلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله من هم أحرص منا على الهدى والخير ، فكيف يزعم الزاعم أن التلفظ بها من الخير بعد ذلك ؟ هذا لا يكون أبدا ، فإنه صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئا من الخير يعلم أنه خير لنا إلا دلنا عليه ، ولا شرا ، يعلم أنه شر لنا إلا حذرنا منه ، حتى تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، فمحال أن يكون التلفظ بالنية من الخير ويسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يبلغه لأمته ، ومن المسلم الذي تطيب نفسه أن يتصور شيئا كذلك أو ينقدح في ذهنه شيء من ذلك في نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ وبه تعلم :ــ أن التلفظ بها ليس من الخير ، وما لم يكن من الخير فليس بمشروع ن وما ليس بمشروع فلا يجوز التعبد لله تعالى به ، لأن التعبد لله تعالى بما ليس بمشروع بدعة ، فصح بذلك قولنا :ــ التلفظ بالنية من البدع .
الثامن :ــ أن كثيرا ممن يتلفظ بها يقع في بعض المخالفات من أجل مراعاة تحقيق التلفظ بها ، كرفع الصوت بها ، وإيذاء من حوله من المصلين ، وكالتأخر عن تكبيرة الإحرام عقيب الإمام مباشرة ، من أجل إتمام التلفظ بها ، وهذا في الصلاة ، بل إن بعضهم قد ينساها ويكبر للإحرام ، فيتذكرها ثم يقطع الصلاة ليقولها ويكبر مرة أخرى ، فانظر كيف يصنع الجهل بأهله ، فبما أن التلفظ بها تحتف به هذه المخالفات فلا يمكن أن يكون مشروعا ، لأن الشرع مبناه على تحقيق المصالح ودرء المفاسد ، لا العكس ، وهذا واضح .
التاسع :ــ أن التلفظ بها يفتح على العبد أبوابا من الوساوس في تحقيق التلفظ بها ، وهل قام به كما ينبغي أو لا ؟ وهل أصاب في قول جزئياتها أو لا ؟ وهل يكتفى بقولها مرة واحدة أو لا بد من التكرار تحقيقا لها ؟ وأنت تعلم أن باب الوساوس باب خطير له آثاره السيئة على القلب والتعبد ، والشريعة قطعت أسباب الوساوس من دابرها ، فلما كان التلفظ بالنية من جملة الأسباب التي ينفتح بها باب الوساوس ، فالمناسب في الشرع إغلاقه لا فتحه ، وهذا لا يتأتى مع القول بمشروعية التلفظ بها ، بل لا يكون إلا مع القول بأن التلفظ بها من المحدثات والبدع ، ولقد حدثني بعض من يتلفظ بالنية عن المعاناة الكبيرة في قولها وتحقيق التلفظ بها وتكرار ذلك ومحاسبة النفس عليه ، بما يقطع به العاقل أن التلفظ بها لا يمكن أن يكون مشروعا ، بل هو ممنوع محدث ، وأقسم بالله تعالى أيها الإخوان أنه بدعة محدثة ، وبلية منكرة لا أصل لها ، ولا برهان يعضدها ، وسف أوافيكم بالتفريع في مشاركة أخرى إن شاء الله تعالى .والله المستعان

 
جميع الحقوق محفوظة الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ وليد بن راشد السعيدان