القاعدة العاشرة :- العبرة في الدعوة بموافقة الحق لا كثرة الأتباع على غير الهدى . |
القاعدة العاشرة :- العبرة في الدعوة بموافقة الحق لا كثرة الأتباع على غير الهدى . أقول :- إن من الناس من يغتر بالكثرة ،ويرى أن الميزان في معرفة المحق من المبطل إنما هو على كثرة الأتباع ، وهذا ميزان باطل ، وليس له من الأدلة نصيب ، بل الأدلة وردت بخلافه ، فعلى الداعية أن يكون همه الذي يأكل معه ويشرب إنما هو موافقة الحق ، فموافقة الحق في الدعوة هو الهم الأكبر الذي لا بد من مراعاته ، فنحن ندعو للحق لا لنتكثر من الأتباع على غير الهدى ، فالدعوة المبنية على الحق والهدى هي الدعوة الناجحة الباقية وإن قل الأتباع فيها ، بل إن عادة أتباع الحق هو القلة لا الكثرة هذا في الغالب ، قال تعالى عن قوم نوح بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ] وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [ وقال تعالى ] وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [ وقال تعالى ] وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ وقال تعالى ] وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [ فلا يضر الداعية قلة الأتباع إن كان على الحق والهدى ، ولا ينفعه كثرة الأتباع إن كان على الضلال والبدعة والمخالفة ، بل ضرر كثرة الأتباع على غير الهدى أكبر من نفعهم ، فإن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيء ، كما في الحديث ، مع أن نية الداعية بدعوته تكثير الأتباع خلل في النية وسوء في القصد ، فالله الله أيها الداعية الحبيب بالحرص الكبير على موافقة الحق واتباع الدليل ، سواء تبعك أحد أو لم يتبعك أحد ، سواء أحبك الناس أو كرهوك ، قبلوك أو رفضوك فالداعية الناجح هو من وافق في دعوته الحق ، ولو لم يتبعه أحد ، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " فرأيت النبي ومعه الرجل والرجلان والرهط والرهيط ، ورأيت النبي وليس معه أحد " حديث صحيح(1) ، والناجون من الأمم قليل ، فلا تجعل نجاح الداعية مربوط بكثرة أتباعه ومن يحضر عنده من الناس ، وإنما العبرة والميزان هو موافقة الحق ، وليست الجماعة الممدوحة من كثرت أعدادها ، بل الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك ، وكم من الدعاة من يجتمع عنده ألاف الناس وليس على شيء من الحق والهدى ، ولكنه التحريض والحماس ورفع الأصوات والصراخ وتهييج العامة وإشغال الناس بالقيل والقال وقصاصات المجلات والجرائد ، والتحديث بالغرائب من الحكايات والقصص التي لا خطام لها ولا زمام ، وكم من الدعاة من لا يكون عنده إلا الجماعة القليلة التي قد تعد على الأصابع ، ولكنه على جادة الحق والصراط المستقيم ، فإن وافقت الحق في دعوتك فلا حرج عليك أن لا يكون عندك إلا النفر القليل ، وإن مراعاة كثرة الأتباع في الدعوة إلى الله قد جر بعض الدعاة إلى أن يقول في دعوته ما يريده الناس لا ما يعرف أنه موافق للحق ، فينظر ما الذي يحبه الناس ويتعشقونه فيقوله ، حتى يتكثر من الأتباع ، فليس همه موافقة الحق ، وهذا الأمر إن دخل في اهتمام الداعية أفسد عليه قلبه ، وكدر عليه صفاء نيته ، وذمته الألسنة ، واحتقرته الأعين ، وأمره لا يزال في سفال ، وسعيه إلى وبال ، ولم يبال الله تعالى به ، فلا ثواب له ولا أجر ، بل الخيبة والخسارة في الدارين ، والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، نعم ، إن كثر الأتباع على الحق والهدى من غير قصده بالذات فالحمد لله ، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء ، وأما أن يكون التكثر من الأتباع على حساب ترك الحق والسكوت عن الباطل والمجاملة في الدين والمداهنة على الأمر المشين فهذا أمر لا يجوز ، فنسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا مما لا يرضيه ، وأن يكفينا شر النفوس الأمارة بالسوء ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ثم أقول أيها الداعية المبارك :- إن العبرة في الدعوة بحلول البركة من الله تعالى ، والتوفيق منه سبحانه وتعالى فلربما لا يكون قد تبعك على دعوتك إلا الواحد أو النفر القليل ، ولكن الله تعالى يحي بهم الأمة كلها فالعبرة بالكيف لا بالكم ، وكم من داعية تجتمع عنده الآلاف المؤلفة ، ولا تنتفع بهم الأمة في شيء بل يكونون عالة عليها في فساد فهمهم وحماسهم غير المنضبط ، والتوفيق والبركة لا تكون إلا في صلاح النية وسلامة المقاصد وتوحيد الهم على نصرة الحق ودلالة الناس على الصراط المستقيم ، وأن تكون الغاية بالقصد الأول رضا الرب جل وعلا وإحياء دينه في القلوب ، وهداية الناس إلى طريقه ، كثر الأتباع أو قلوا ، فليكن آخر اهتماماتك كثرة الأتباع أو قلة الأتباع ، واستمر في العطاء ، واتق الله تعالى وأحسن الظن به وتوكل عليه ، وصحح الطريق إليه والزم جادة سلف الأمة في العقيدة والعمل والدعوة وأبشر بالخير الكثير والثواب الجزيل منه جل وعلا ، وقد جرت سنة الله تعالى أن الحق عال وإن تطامن في أول الأمر ، وأن الباطل في سفال وإن تطاول أول الأمر ، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا ، فطهر قلبك من المقاصد التي توجب له الوهن والانقطاع وعليه :- فإن افتتحت درسا في العقيدة أو الفقه أو نحوها من علوم الشريعة وقل عندك الحضور فاحذر يا أخي من إغلاقه ، بل واصل واستمر في العطاء ولو لم يحضر عندك إلا واحد ، ما دمت تدرس العلم الشرعي والخير فلا تغلقه أو يضيق صدرك من قلة الحضور ، أو تعاقب من حرص على الحضور بخطأ من لم يحضر ، فتحرم الحاضر من أجل من غاب ، واصل في الدرس واستمر في النفع وابشر بالخير, فإنما عليك هداية الدلالة والإرشاد لا هداية التوفيق والإلهام ، وقم بالذي عليك ولا شأن لك بتقصير غيرك وإن افتتحت موقعا للدعوة إلى الله تعالى على بصيرة وعلم في الشبكة العنكبوتية ، وقل الزائرون لموقعك فلا يضق صدرك وأبشر بالخير العظيم ، وخدمة الدين هي غاية الشرف ، وأما كثرة الزائرين لموقعك من قلتهم فليست بشيء ، ولا تنكسر إن رأيت بعض المواقع يزورها الآلاف ، فإنها إن كانت على الحق والهدى فهو محض توفيق وفضل من الله تعالى ، فلا تحسد أخاك على نعمة الله تعالى عليه ،وإن كانت على غير الحق والهدى فإنما هي وبال على أصحابها ، وإن رتبت بعض المحاضرات الطيبة في الموضوعات الهادفة ولم يأتك لحضورها إلا القليل من الناس فلا تحزن ، ولا تيأس ، وأبشر بالخير ، لأنك قمت بما هو مطلوب منك ، فتقصير غيرك فيما هو مطلوب منه لا تسأل عنه ولا تحاسب عليه ، فعليك بالبذل والترتيب والعطاء وما عليك إن لم يأتك أحد ، فإن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه من أمته أحد ، وهو نبي يوحى إليه ، وعليك بالتحلي بالصبر والحلم ، والنجاح عند الله تعالى ليس مربوطا بكثرة الحضور أو قلتهم ، بل بموافقة الحق والهدى والدليل ، مع أن الأمر لن يبقى على القلة ، كما هو الحال بالتجربة ، بل سيفتح الباب ، ويكثر الناس ، والأمر بيد الله تعالى ، وقد سمعت من بعض الثقات أن الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى في أول أمره في التعليم في الجامع الكبير بعنيزة ، قد لا يحضر عنده إلا الواحد ، بل وربما يمر وقت الدرس ولم يحضر أحد ، ولكن لم يقبض الله تعالى روحه إلا وقد تجمهر الطلاب في دروسه بالمئات ، بل بالآلاف كما في درسه في الحرم ،وفي الدورات الشرعية المقامة في الجامع الكبير ، فالتوفيق بيد الله تعالى وحده ، مع أن الأمر حتى وإن استمر على القلة فلا يضر ، لأن المعتبر في الدعوة إنما هو موافقة الحق والهدى ، لا التكثر من الأتباع على غير الهدى ، فهذه القاعدة الطيبة في الحقيقة تحفظ قلب الداعية من ورود المقاصد التي لا تنبغي ، ودافعة للعطاء والاستمرار في البذل بلا انقطاع بإذن الله تعالى ، والله من وراء القصد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . (1) رواه البخاري في الطب باب من لم يرق, وفي الأنبياء باب وفاة موسى , وفي الرقاق باب من يتوكل على الله فهو حسبه , ورواه مسلم في الإيمان , والترمذي في صفة القيامة . |