القاعدة الرابعة عشرة :- الدعوة بالقدوة والأفعال يؤثر في النفوس أكثر من تأثير الأقوال . |
القاعدة الرابعة عشرة :- الدعوة بالقدوة والأفعال يؤثر في النفوس أكثر من تأثير الأقوال . أقول :- لا جرم أن الدعوة بالقدوة له أهميته الكبيرة في الصلاح والإصلاح ، وقبول الدعوة ومحبة الناس للداعية ، وقبل ذلك الخروج من مقت الله تعالى ، قال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [ وقال تعالى ] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ قال ابن كثير رحمه الله (أي هو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه بل إنه يدعو إلى الخير، ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق تعالى، وهذه عامة في كل من دعا إلى ذلك وهو في نفسه مهتد) فالدعوة إلى الله بالقدوة الحسنة تصلح النيات، وتوفر الأوقات، وتختزل الطاقات وتمكّن الداعية من أداء أدوار عدة متكاملة من أهمها: تطبيق الإسلام خُلقاً ومعاملة وعفة لجذب الناس إليه بالأمثلة الحية ، وتتمثل الدعوة إلى الله تعالى بالقدوة الحسنة في الكلام، والسلوك، والقول، والعمل والحال والمقال، والتطابق والتكامل في كل ذلك.وفي حال التناقض السلوكي يحل غضب الله ومقته ، إن من واجب الدعاة إلى الله في العصر الحاضر القيام بالدعوة الإسلامية عن طريق القدوة الحسنة لأنها السبيل الوحيد لهداية الناس، وإصلاح أحوالهم الدينية والدنيوية، ولن يتحقق ذلك إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، والصبر على الدعوة، وعلى أذى الناس ، ومن أهمية التربية بالقدوة فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء قبله ، فقال تعالى ]أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ[ والقدوة في الأدلة يعبر عنها بالأسوة الحسنة ، قال تعالى ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ قال ابن كثير (هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا أُمِرَ الناسُ بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل ) وقد ذكر أهل التاريخ أن السبب الرئيس في انتشار الإسلام في شرق آسيا هو تطبيق الإسلام وجعله منهج حياة من قبل تجار المسلمين ، فالدعوة بالقدوة من أهم أسباب الاستجابة للداعية ، وقد كانت الوفود تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتسلم بين يديه إسلام طواعية لا كراهية ، لما تراه من حسن تعامله وطيب أخلاقه وكريم ضيافته وكبير احترام أصحابه له وتقديرهم وتعظيمهم له ، فالداعية إلى الله تعالى لا بد وأن يكون على جانب كبير من الاهتمام بمسألة القدوة ، وأنها تفعل في قلوب الناس الأفاعيل ، وهي من باب تصديق القول بالعمل ، وقد قسم أهل العلم رحمهم الله تعالى القدوة إلى قدوة حسنة مطلقة : أي معصومة عن الخطأ والزلل ، كما هي في الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، وإلى قدوة حسنة مقيدة أي بما شرعه الله عز وجل ؛ لأنها غير معصومة ، كما هي في الصالحين والأتقياء من عباد الله من غير الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فغير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام قد يقتدى بهم في أمور دون أخرى ، وذلك لاحتمال صدور تصرفاتهم عن ضعف بشري ، أو خطأ اجتهادي ، لذا كان الاقتداء بهم مقيدًا بموافقة شرع الله ، وبهذا يكون أسلوب القدوة الحسنة أسلوبًا عامًا يشمل التأسي بكل من عمل عملاً صالحًا حسنًا كان نبيًا رسولاً ، أو كان تابعًا للرسل الكرام ناهجًا نهجهم في عمله ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صلوا كما رأيتموني أصلي"(1) ولما كان في حجة الوداع كان إذا فعل المنسك قال "لتأخذوا عني مناسككم"(2) وهذا من التعليم بأسلوب القدوة ، بل إن التعلم بالقدوة أسهل وأيسر من التعلم بالقول ، لما فيه من عمق التأثير وسلامة الأخذ وكمال الفهم ، فإن القول قد لا يفهم أحيانا وأما التطبيق العملي فهو مفهوم لدى العامة ، وقد كان بعض الصحابة ربما توضأ وهو لا يريد الوضوء وإنما لتعليم الناس كما فعله علي وعثمان وغيرهما رضي الله عنهم وأرضاهم ، وقد جهر عمر بدعاء الاستفتاح مدة من الزمن ليعلم الناس ، وقد كان بعضهم يصلي وهو لا يريد الصلاة ولكن يريد تعليم الناس سنة الصلاة ، وقد جهر ابن عباس بالفاتحة في صلاة الجنازة ليعلم الناس أنها سنة القراءة فيها ، مع أنهم قادرون على تعليم الناس بالأقوال فقط ، ولكن التعليم بالاقتداء من أبلغ وأعمق وأبقى آثار التعليم في النفوس ، فالقدوة الحسنة لها أثرها ودورها الكبير في التعليم والتربية الحسنة ونشر الخير بين فئام المجتمع ولما اختلف الناس في فطر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة أرسلت له بعض النساء بقدح من لبن فرفعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته ليراه الناس وشرب منه ، بل ونحن نحس في أنفسنا روعة وجمال الداعية إن كان ذا سمت حسن وكان ممن يفعل ما يقول ، وكانت الأمور التي يدعو لها منطبعة على محياه وأخلاقه وتفوح روائها الزكية العطرة منه ، وأذكر أنني حضرت خطبة لبعض الأحباب ممن لا أعلم عليه إلا الخير ، ووافق أن الخطبة كانت عن الزهد في هذه الحياة ومتاعها ، وكانت من أروع ما سمعت في ذم الدنيا ، ولما سلمنا عليه ودعانا إلى بيته فوجئت في الحقيقة لما رأيت بيته وما فيه من التحف الكثيرة والتي أعرف أنا أنها من ذوات الأثمان الغالية ، نعم ، أخفيت الأمر في نفسي ولم أبده له ،ولكن كدر ما رأيته على صفاء الخطبة وروعتها وجمالها في نفسي ،تكديرا حاولت أن أقنع نفسي أنه من الشيطان ، ولكن ما استطعت ، لأن العبد مفطور على الربط بين الدعوة وسلوك الداعية ، وقد كان بعض سلف الأمة إن طلب منه ترغيب الناس في بعض أعمال الخير انتظر قليلا حتى يتسنى له أن يفعله عدة مرات ، ثم يدعو الناس له بعد ذلك ، وهكذا ينبغي أن يكون الداعية ، وألسنة الناس حداد غلاظ على من خالف قوله عمله ، فالداعية هو محط القدوة في الناس فليتق الله تعالى في نفسه ، وهو محط نظر الناس في إساءته وإحسانه ،ويروى أن أبا جعفر الأنباري صاحب الِإمام أحمد عندما أُخبر بحمل الإِمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة. عبر الفرات إليه فإذا هو جالس في الخان، فسلم عليه، وقال: يا هذا أنت اليوم رأسٌ والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليجيبنَّ بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعنَّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل-يعني المأمون- إن لم يقتلك فأنت تموت، ولا بد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء. فجعل أحمد يبكي ويقول: ما قلت؟ فأعاد عليه فجعل يقول: ما شاء الله، ما شاء الله ... والداعية الصادق هو الذي يتقي الله تعالى في الناس ، فلا يقول القول ولا يفعل الفعل إلا بعد النظر في عواقبه في تأثيره على القدوة من عدمه ، ويروى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه لما قيل له في أمر الرخصة في القول بخلق القرآن ظاهرا مع اطمئنان القلب بالإيمان بسبب شدة الإكراه قال :يامروزي - أحد تلامذته - اخرج ، انظر أي شيء ترى ، قال: فخرجتُ إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقًا من الناس لا يحصي عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي: مكانكم. فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له: رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال: يا مروزي أضل هؤلاء كلهم ! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء... هذا هو من يراعي جانب القدوة ، فالداعية إن استشعر كبر الخطر في الإخلال بجانب القدوة استقامت أموره ووفق فيها للحق بفضل الله تعالى ، وأما إن أهمل هذا الجانب الخطير المهم فإنه قريبا ما تنزل هيبته من القلوب وتزدريه العيون وترد دعوته العقول ، فالمأمول منا جميعا أن نهتم بهذا الجانب ، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن القدوة ترتكز على عدة أمور , الأول :- الصلاح ، وهذا أمر يتحقق بالإيمان والتقوى والتعبد مع مراعاة جانب الإخلاص والمتابعة والحذر من الرياء والتسميع والإحداث ، فصلاح الداعية في ذاته من أهم الأمور التي ترتكز عليها القدوة الحسنة ، الثاني :- حسن الخلق ، وما أعظمه وأجمله وأروعه في المسلم عموما وأهل العلم خصوصا ، ناهيك عن الفضائل الكثيرة والأجور العظيمة المترتبة على التحلي بحسن الأخلاق التي وردت بها الشريعة ، الثالث :- موافقة القول العمل ، وقد تكلمنا عن هذا سابقا فإن اجتمعت هذه الصفات في داعية فقد استجمع أصول القدوة الحسنة ، والقدوة الحسنة كفيلة بنجاحه في دعوته ، نسأل الله تعالى التوفيق للجميع في الدنيا والآخرة والله أعلم وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم . |