القاعدة التاسعة عشرة :- فهم واقع المدعوين مهم في نجاح الدعوة .

القاعدة التاسعة عشرة :- فهم واقع المدعوين مهم في نجاح الدعوة .

أقول :- إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له " إنك تأتي على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ... الحديث " متفق عليه ، والشاهد منه هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف واقع المدعوين هناك ، وأخبر بها معاذا حتى تكون دعوته متفقة مع ما يتناسب مع حال المدعو ، وحتى لا تكون الدعوة في واد ، وما يحتاجه الناس في واد آخر ، وإني لأعجب من داعية يقصر في هذا الأمر ، ولذلك ففي الأعم الأغلب لا تكون الدعوة مؤثرة في الناس إلا إن كان الداعية على فهم كبير وعلم ودراية بواقع البلد التي يريد الدعوة فيها ، فلو لم يكن فهم واقع المدعوين مهم في الدعوة لما تكلف النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه معاذ لذلك الأمر ، ولأن فهم الواقع من الأمور التي تعصم بإذن الله تعالى من الزلل والخطأ في دعوة الناس ، ولكن الناس في فهم واقع المدعوين خصوصا والناس عموما على طرفين ووسط ، فمن الناس من يرى قدسية مسألة فهم الواقع وأنها من أعظم الواجبات على الدعاة ولربما تجرأ لسانه بالقدح في بعض أهل العلم في جهلهم - زعم - بفهم الواقع ، فتراه يهمل التعلم وحضور حلقات أهل العلم وقراءة الكتب في المسائل الشرعية بحجة أنه مشغول بفقه الواقع ، مع أنه لا دور له في إصلاح الواقع وإنما هو الاكتفاء بإخبار الناس بأنه حصل كذا وكذا ، وهذا غلو في هذه المسألة ، وقابلهم طائفة لا حرص لهم بفهم واقع الناس ، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم ، والوسطية في هذه المسألة هي الخير ، ففهم الواقع المطلوب هو ذلك الفهم الذي يوضح واقع الناس لنبني عليه دورنا في الدعوة ونحكم عليه بما يخصه من الأحكام الشرعية في الفتاوى والقضاء  ففهم الواقع ليس مقصودا لذاته ، وإنما هو وسيلة لتحقيق المصالح الشرعية ودفع المفاسد عن البلاد والعباد ، فما كان من فقه الواقع محققا للمصلحة الخالصة أو الراجحة ، ودافعا للمفاسد الخالصة أو الراجحة فهو الفهم المطلوب ، فلا نلغيه مطلقا ، ولا نعتمده وندعو له مطلقا ، وإنما نعتمد منه ما كان محققا للمصالح المعتبرة شرعا ، ودافعا للمفاسد المأمور بدفعها شرعا ، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر أصحابه إلى بلد يكونون فيه بمأمن من ظلم قريش وتعذيبها اختار لهم الهجرة إلى الحبشة, لأنه يعرف أن فيها ملكا لا يظلم الناس عنده ، فلم يرسلهم إلى فارس ولا إلى الروم ولا لغيرها من البلاد وهذا هو ما ينفع فيه فهم الواقع ، وهو دليل على معرفته الكاملة بما يدور حوله من أحوال الأمم ، ولما كان واقع الأمة العربية يغلب عليها طابع الأمية فإن الشريعة لم تعلق أمور تعبداتها على الحساب الذي يحتاج إلى فهم دقيق ومتابعة مستمرة ، وإنما علقت على أمور ظاهرة يعرفها العامي والعالم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا .. الحديث "(1) ولما بال الأعرابي في مسجده ما ضربه وما كهره ولا زجره ، بل نهى صحابته عن زجره بقولهم ( مه ، مه ) وعن ضربه لما قاموا له ليضربوه ، لعلمه صلى الله عليه وسلم بواقعه من أنه لا يدري عن الحكم الشرعي ولا عن المسجد ولا عن حرمة المسجد ، فترفق به بناء على علمه بواقعه ، ولما فتح مكة قال " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن "(1) لعلمه أن أبا سفيان من سادات قريش ، ومن طبيعة السادة حبهم أن يخصوا بشيء دون غيرهم ، فصارت هذه الكلمة فتحا عظيما على أبي سفيان وآله ، وكذلك مراسلاته ومكاتباته صلى الله عليه وسلم إلى أمراء البلاد والأقاليم المجاورة ، تنم عن فهم كبير لواقع هؤلاء وما هم عليه من العقائد، ولم يكن في القرآن المكي كلام عن المنافقين كثيرا ، لأنه لم يكن في مكة نفاق ،وإنما هو الكفر الصراح ، ولكن القرآن المدني كثر فيه الحديث عن المنافقين وصفاتهم ، لكثرة النفاق في المدينة ومن حولها ، وهذا تغير في بعض الخطاب لتغير واقع المدعوين ، ولما ربط ثمامة بن أثال في المسجد كان يعرض عليه الإسلام طيلة مدة إيقافه ،ثم قال بعد ذلك :- أطلقوا ثمامة ، مع أنه لا يزال على كفره ولكن لأنه سيد أهل اليمامة ، والسيد لا يحب الذل ، ولا القيد ، فأثر فيه العفو النبوي الكريم تأثيرا بليغا حتى أسلم واغتسل وتوعد قريشا بأن لا يصل لها من اليمامة حبة حنطة ، وهذا أنفع أسلوب مع السادة، وهو التلطف والعفو ، وهذا منبثق من فهم النبي صلى الله عليه وسلم لواقع ثمامة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول الصحابة بالموعظة في الأيام كراهية السآمة عليهم ، لعلمه صلى الله عليه وسلم بواقع النفس البشرية ، وقد كان في أول الدعوة مستخفيا بدعوته لا يعلنها أمام العامة وإنما كان يخص بها من يغلب على ظنه أنه يستجيب له ، وهذا من فقه الواقع ، لأنه يعلم أن الدعوة في بداياتها كانت ضعيفة ، وكلمة الكفر قوية ، ففقه الواقع وفهم حال المدعو أمر مهم ، ولكن كما ذكرت لك لا ينبغي الاشتغال به قبل العلم الشرعي ، لأن المنتفع بفهم الواقع حقيقة هو من ينزل هذا الواقع على النصوص الشرعية ، قال الشيخ صالح الفوزان (وأما الاشتغال بواقع العصر كما يقولون، أو فقه الواقع؛ فهذا إنما يكون بعد الفقه الشرعيِّ؛ إذ الإنسان بالفقه الشرعيِّ ينظر إلى واقع الناس وما يدور في العالم وما يأتي من أفكار ومن آراء، ويعرضها على العلم الشرعيِّ الصَّحيح؛ ليميز خيرها من شرِّها وبدون العلم الشرعيِّ؛ فإنه لا يُميِّزُ بين الحقِّ والباطل والهُدى والضَّلال؛ فالذي يشتغل بادئ ذي بدء بالأمور الثقافية والأمور الصَّحافيّة والأمور السياسيّة، وليس عنده بصيرة من دينه؛ فإنّه يَضِلُّ بهذه الأمور؛ لأنَّ أكثر ما يدور فيها ضلالة وداعية للباطل وزُخرُفٌ من القول وغرور، نسأل الله العافية والسَّلامة)ا.هــ. وسئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى عن مسألة فقه الواقع والضابط الشرعي فيها ، فقال رحمه الله تعالى (فقه الواقع يعني: فقه واقع الناس الذين هم عليه. هذا فقه الواقع، ومن المعلوم أن واقع الناس لابد أن يكون معلوماً لدى الإنسان حتى يعرف ماذا يعيش فيه، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن "إنك تأتي قوماً أهل كتاب" فأخبره عن واقعهم وحالهم، لكن لا يجوز بحال من الأحوال أن يطغى على الفقه في الدين، وأن يكون ليس للشاب أو لغير الشاب هم إلا أن يبحث فيما حصل في أمر لا يمكنه إصلاحه -أيضاً- لو أراد الإصلاح، فالفقه في الدين هو الأصل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(2) والفقه في الواقع نحتاج إليه لنطبق الفقه في الدين على أحوال الناس؛ لأنه لا يمكن أن تحكم على شخص بأنه فسدت صلاته مثلاً حتى تعلم أنه فعل مفسداً أو أن صيامه بطل حتى تعرف أنه فعل مبطلاً، لكن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يطغى فقه الواقع على فقه الدين، بحيث لا يكون للإنسان هم إلا مطالعة الجرائد والمجلات، وما أشبه ذلك ويعرض بذلك عن مطالعة الكتاب والسنة )ا.هــ. فالمطلوب ليس هو فقه الواقع فقط ، بل المطلوب فقه الواقع ومعرفة الواجب في هذا الواقع قال ابن القيم رحمه الله تعالى (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم, أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما , والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجر فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ) إن غالب من يكتب في هذا الشأن يعقدون فصولا عن ثقافة الداعية ، ويعنون بهذه الثقافة هي تأهيل الداعية لبناء خلفية معرفية عن الواقع المعاصر - الذي يعايشه - السياسي ، والاجتماعي ، والنفسي وغير ذلك، ولا يعطون العلم الشرعي المؤصل المبني على الدليل من الكتاب والسنة حقه إلا على سبيل الإشارة ، مع أن الذي لا شك فيه أن العلم الشرعي يمثل العمود الفقري للداعية في دعوته ؛ لأن به يميز الأمور ، ويحافظ على الأصيل ، ويستطيع أن يتعامل مع الجديد وفق الضوابط الشرعية والأصول المرعية ، ولذلك تجد كثيرا من المعاصرين يغرقون في الجوانب الثقافية المذكورة ، وأصبحت قراءة كتب الشرق والغرب من أولى أولوياتهم وأكبر اهتماماتهم ، حتى إن بعض من يكتب في مثل هذا تجد استشهاده بنظريات الغرب وذكر أسماء منظريهم أكثر من ذكر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال أئمة العلم والدين في القديم والحديث ، ولذلك فإن الخطاب الدعوي في كثير من الجهات مترهل ومهزوز ، فالقريحة ترابية والفكرة سحابية !! والشعارات تأخذ مساحات كبيرة في ذهن غالب الدعاة أكثر من المبادئ والقواعد والأصول ، وبسبب هذا تجد الترحل والتقلب سمة بارزة على هذا اللون من المثقفين ، ولذلك لا بد من معرفة أن ثقافة الداعية تكمن في العلم الشرعي المؤصل ، ولا يعني هذا بالضرورة إغفال النظر في باقي الفنون والعلوم ، لكن لا يسمح تمريرها إلا عن طريق غربلتها عبر الأدلة الشرعية والقواعد والأصول المرعية ، ولعل الأمر قد اتضح إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .

 

(1) رواه البخاري 4 / 108 في الصوم ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا نكتب ولا نحسب ، وباب هل يقال : رمضان أو شهر رمضان ، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وفي الطلاق ، باب اللعان ، ومسلم رقم (1080) في الصوم ، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال ، وأبو داود رقم (2319) و (2320) و (2321) في الصوم ، باب الشهر يكون تسعاً وعشرين ، والنسائي 4 / 139 و 140 في الصوم ، باب كم الشهر .

 

(1) رواه مسلم رقم (1780) في الجهاد ، باب فتح مكة ، وأبو داود رقم (3024) في الخراج والإمارة ، باب ما جاء في خبر مكة .

(2) إسناده صحيح , أخرجه أحمد (1/306) (2791) والدارمي (231و 2709) الترمذي (2645) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

جميع الحقوق محفوظة الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ وليد بن راشد السعيدان