القاعدة الثالثة والعشرون :- كسب قلوب المدعوين من أهم أسباب نجاح الداعية .

القاعدة الثالثة والعشرون :- كسب قلوب المدعوين من أهم أسباب نجاح الداعية .

أقول وبالله تعالى التوفيق :- إن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن القلب هو ملك الأعضاء والأعضاء جنوده ، فإن طاب الملك طابت الجنود ، وإن خبث الملك خبثت الجنود ، وهي كلمة تروى عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وأعظم من هذا قول ربنا جل وعلا ] أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [ والمراد أنه حكم  عليه بالحياة لما أحيا قلبه بنور الإيمان واليقين ، وعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ "(1) والشاهد أنه جعل صلاح البدن مرهون ومعلق بصلاح القلب ، وعن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه " رواه مسلم وغيره(1) ، وفيه أن الثبات إنما حقيقته ثبات القلب ، وأن صلاح القلب وطلاحه هو الحاكم على صلاح الأعضاء وفسادها ، فحيث كان القلب بهذه المنزلة الخطيرة فلا بد وأن يكون أكبر انصباب اهتمام الداعية على هذه المضغة المهمة ، فإن الداعية إن استطاع أن يكسب قلب المدعو ، فإنه يكون بذلك قد قطع مسافات طويلة في الدعوة، لأن انشراح القلب للداعية سبب في نجاح دعوته ، وسبب في قبول الدعوة ، فكسب القلوب ليس بالأمر السهل ولا الهين ، بل له دوره الكبير جدا في القبول والرد ، والصلاح والطلاح ، والموافقة والممانعة ولذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا الحرص الكامل على تأليف القلوب وكسبها ، ليكون ذلك أعون له على قبول الدعوة ، فقال تعالى ] فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [ فالفظاظة وغلظ القلب من الأسباب التي تقفل القلوب عن الداعية ، لأن النفوس قد فطرت على كراهة القاسي الغليظ ، ثم أمره بما يوجب كسب القلوب ، من العفو ، والدعاء والاستغفار لهم ، ومشاورتهم في الأمر ، وهذه الأمور كلها مما تشرح صدور المدعوين للداعية ، فالداعية الموفق هو من وفقه الله تعالى لهذه الأمور ، فإن قلوب المدعوين ستسيل بين يديه بسببها ، فأما العفو فهو الخلق الذي لا مثيل له في الدعوة ، ولذلك فإن ثمامة بن أثال رضي الله عنه قد أسلم لما عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه بعفوه هذا قد أسر قلبه ، وعفا عن الأعرابي الذي بال في مسجده ، فكان من آثار هذا الكريم أن ثبت الله تعالى قلبه ، وازداد حبه للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال ( اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر معنا لأحد ) وعفا عن الأعرابي الذي جبذه من عمامته القطرية حتى أثر في النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعطاه ، ثم أعطاه ، حتى شكر الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم عطيته وكرم أخلاقه أمام الملأ ، وعفا عن كفار قريش لما أقدره الله تعالى عليهم ، ومكنه من رقابهم ، وقد فعلوا به وبأصحابه يوم قوتهم الأفاعيل إذ كان بين أظهرهم ، فلما قدر على رقابهم ، وسيفه مصلت قال كلمته التي سطرها التاريخ " يا معشر قريش اذهبوا فأنتم الطلقاء " إنه والله العظيم الخلق الكريم ، لأن الله تعالى هو الذي رباه على عينه جل وعلا ، فصار عفوه هذا سببا في إسلام الكثير منهم ، لأن الداعية ليس من خلقه الانتقام لذاته ، والتفرعن بعد السيطرة ، بل الداعية ينبغي له أن يكون ذا عفو وتواضع وصفح لأن المقصود هو هداية الناس لا الانتقام منهم ، وهذا كما قال الله تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام أنه قال لإخوانه وقد فعلوا به ما فعلوا ] لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ إنها الأخلاق الكريمة الرفيعة التي قد جاوزت الوصف ، أما نحن فناهيك عن القسوة والفظاظة التي تكون منا حال السيطرة ، والله المستعان ، وقد عفا عن الأعرابي الذي انتهز فرصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم وسل السيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا محمد من يمنعك مني ، فقال " الله " فاضطربت يده وسقط السيف منه ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للإعرابي " وأنت من يمنعك مني " فتوسل له الأعرابي ، فأطلقه وعفا عنه(1) . فصارت سببا في إسلامه ، هكذا تكسب القلوب  فالعفو عن المدعو حال خطئه من أكبر الأسباب التي توجب انشراح صدره وكسب قلبه ، ثم تكون الهداية والاستجابة بإذن الله تعالى ، والصور كثيرة جدا لا تكاد تحصر ، لأن العفو هو سجيته المعهودة منه صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فقد استجاب لدعوته من الناس من لا يحصيهم إلا الله تعالى ، لأن العفو مفتاح القلوب ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود التشهد وكفه بين كفيه ، بالله عليك ، لو علمك أحد العلماء شيئا من الدين وكفك بين كفيه ، فما حالك مع هذا التعليم الرائع ، لا جرم أنه سيكون من العلم الذي يقر في القلوب ، وتبادر بامتثاله لأن القلب قد أسر بهذه الحركة التي لا يراد منها إلا كسب القلوب واستمالة العواطف وبيان كبير الحرص على التعليم ، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن اتصال شيء من بدن الداعية إلى بدن المدعو حال إلقاء الدعوة من الأمور الموجبة للقبول ، وما ذلك إلا لعشق القلوب لهذه اللطافة الكريمة والحرص المتناهي ، وانظر كيف علم النبي صلى الله عليه وسلم معاذا الذكر بعد الصلاة ، فعن الصنابحي ، عن معاذ بن جبل ، أن رسول اللَّهِ أخذ بيدي يوما ثم قال " يا معاذ ، والله إني لأحبك " فقال له معاذ : بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّهِ والله إني لأحبك . فقال " أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ..."(1) يا لله  كم لهذا التعليم من الأثر الكبير والقبول العظيم ، لم يعلمه مباشرة لا ، بل قدم أمورا توجب كسب القلب وبيان كبير الاهتمام ، وإظهارا للفضل ، أخذ بيده فحصل اتصال بين الداعية والمدعو ، ثم أخبره بكبير الحب له في الله ، ثم علمه بعد ذلك ما أراد ، فهل هناك مجال للرد والتقاعس عن القبول أو التشاغل بأمور أخرى ؟ بالطبع لا ، فكسب القلوب هو أعظم الأسباب التي توجب نجاح الداعية ، وإننا لنشكو في هذا الزمان الفجوة الكبيرة بين الدعاة والمدعوين  ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، واسمع لأبي هريرة رضي الله عنه وهو يذكر صورة من صور التعليم العظيم من أعظم المعلمين عليه الصلاة والسلام ، فإنه لما أراد أن يعلمه أمورا من الدين لم يعلمه هكذا جزافا ، لا ، بل أخذ بيده ، وعدد الأمور المراد تعليمها له بعدد يده هو ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه "مَنْ يأخُذْ عَنِّي هؤلاء الكلمات فيعمل بِهِنَّ ، أو يُعَلِّمَ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟" قال أبو هريرة، فقلتُ : أنا يا رسولَ الله ، فأخذ بيدي وَعَدَّ خَمْسا ، فقال " اتَّقِ المحارِمَ تَكُنْ أَعبد الناسِ. وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأَحْسِنْ إِلى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنا ، وأَحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مُسْلِما ولا تكثر الضحك ، فإن كثرة الضحك تُميت القلب" أخرجه الترمذي(2) ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أردف الواحد من الصحابة لا ينزل من على الدابة إلا وقد تعلم منه أمورا كثيرة ، لأن الحمل والإرداف على الدابة من الأمور التي تكسب قلوب المدعوين ، فإنه لو رأيت إنسانا منقطعا في الطريق ، ثم أركبته معك في السيارة ، ولاطفته ثم دعوته إلى أمر من أمور الدين فإنه سيكون ذا قلب منشرح وصدر متسع لما تقول ، لأنك أحسنت له وأركبته معك ، فالنبي صلى الله عليه علم معاذا وعلم جمعا من الصحابة وهم معه على ظهر الدابة فإرداف المدعو وإركابه معك في السيارة من الأمور التي توجب ميل قلبه لك وحبه لك ، فعن معاذ ابن جبل  رضي الله عنه قال :- كنتُ رِدْفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ليس بيني وبينه إلا مؤخِرة الرَّحْل ، قال " يا معاذَ بنَ جبل " قلتُ : لبيك يا رسول الله وسعديك ، ثم سار ساعة ، ثم قال " يا معاذ بن جبل " قلتُ : لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ، ثم قال " يا معاذ بن جبل " فقلتُ : لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال " هل تدري ما حقُّ الله على العباد ؟" قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال " فإن حقَّ الله على العباد : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " ثم سار ساعة ، ثم قال " يا معاذ بن جبل " قلتُ : لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال " هل تدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟" قلتُ: الله ورسوله أعلم ، قال " حقُّ العباد على الله : أن لا يعذِّبهم " وفي رواية قال : كنتُ رِدْفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له : عُفَير ...(1) وعن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال " يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح . فالداعية الموفق هو من يقدم بين يدي دعوته أمورا يكسب بها قلوب المدعوين ، وكان عليه الصلاة والسلام يخدم أهل بيته ، فعن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ :- كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ ... ومن كسبه لقلوب المدعوين ما كان يفعله مع نسائه صلى الله عليه وسلم ، فعن عائشة قالت : كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه و سلم فيضع فاه على موضع في وكنت أتعرق العرق وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ ... وأي لطافة بعد هذه اللطافة ، فهكذا تكسب القلوب ، وإن كسب القلب فقد استسلمت الجوارح كلها وانقادت ، فالقلوب أمرها عظيم ، فلا ينبغي إهمالها ، وإننا لنشكو إلى الله تعالى في هذا الزمان من بعض الدعاة ينفرون ولا يجمعون ، ويسيئون ولا يحسنون ، فلا ترى الواحد منهم إلا ساع في الإضرار بالغير ، وهؤلاء في الحقيقة ليسوا بدعاة وإن ظهروا بصورة الدعاة ، ومنهم من تأبى عليه هيبته أن يتصرف بما يخل بها عنده ، فلا تراه مبتسما ولا ممازحا، تالله إنها الهيبة الكاذبة والتعامل الممل ، فما الذي يرجوه هؤلاء من الناس ؟ هل يرجون استجابة أو محبة أو قبولا ؟ لا أدري كيف ينظر هؤلاء إلى الدعوة ، وترى البعض منهم قد سخر جهده وقلمه ووقته في تتبع الأشرطة بحثا وتنقيبا عن الأخطاء ، أي عن أخطاء بعض الدعاة الآخرين لعله أن يظفر منها بشيء ، فيعلنها أمام العامة ، وأن فلانا عنده كيت وكيت من الأخطاء ، فلا تراه واعظا ولا مذكرا ، بل ناقدا منقبا عن الزلل والخلل ، وهذا حاله كالذباب لا يقع إلا على كل قبيح ، لا والله ما هكذا تكون الدعوة ، وما على هذا ربانا ديننا ، ومن صور كسب النبي صلى الله عليه وسلم لقلوب المدعوين الممازحة الصادقة الهادفة الموزونة ، فالمزاح أمر تحبه القلوب وتعشقه النفوس ، ولكن لا بد وأن يكون موزونا ، فروى أحمد عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ " وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ فَقَالَ الرَّجُلُ أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ " فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ ..." (1) وعن حميد ، عن أنس بن مالك أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال " إني حاملك على ولد الناقة "، فقال : يا رسول الله ، ما أصنع بولد الناقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " وهل تلد الإبل إلا النوق "(2) وعن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قالوا : يا رسول الله ، إنك تداعبنا . قال " إني لا أقول إلا حقاً "(3) بل حتى الصغار نالوا من مزاحه نصيب واهتمام، فعن أنس قال : إن كان رسول الله  ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير " يا أبا عمير ، ما فعل النغير "(4) وعن النعمان بن بشير قال : استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فسمع صوت عائشة عالياً ، فلما دخل تناولها ليلطمها وقال : أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحجزه ، وخرج أبو بكر مغضباً ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين خرج أبو بكر "  كيف رأيتني أنقذتك من الرجل ؟" قال : فمكث أبو بكر أياماً ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدهما قد اصطلحا ، فقال لهما : أدخلاني في سلمكما  كما أدخلتماني في حربكما . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قد فعلنا ، قد فعلنا "(1) وقال مرة لامرأة " زوُجكِ ، ذلك البياضُ في عينيه ؟ " قالت : عَقْرَى ، ومتى رأيتَه ؟ قال " وهل من عين إلا وفيها بياض ؟ "(2) وقال لامرأة عِجوز " إنه لا يدخلُ الجنةَ عجوز " فقالت : وما لهنَّ ؟ وكانت تقرأ القرآنَ فقال لها " أما تقرئين القرآن ] إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء ، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ، عُرُبًا أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ [ "(3) وجاءه شاب مفعم بحب الزنا ، فما إن حدثه ووضع يده على صدره حتى انقلبت الموازين ، وصار الزنا أبغض شيء إلى هذا الشاب ، إنها القلوب ، فالموفق من وفقه الله تعالى لكسب القلوب ، والصور كثيرة جدا ، فإن قلت :- وبأي شيء نكسب القلوب ؟ فأقول :- أولا ، لا بد من قراءة السيرة قراءة تأمل فإن أعظم من كسب القلوب هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فقراءة سيرة قراءة تأمل وتدبر مما يطلع الداعية على هذا الأمر ، ثم أقول :- أعظم ما كسبت به القلوب هو حسن الأخلاق ، فحسن الأخلاق له الدور الكبير في تحقيق هذا ، فإنك لو تأملت معي جملا من الصور التي ذكرتها لك في هذه القاعدة لوجدت أن الذي يجمعها كلها هو حسن الخلق ، فالعفو والصفح عن المخطئين مما يكسب القلوب ، والمشاورة في الأمر مما يحقق هذا ، والممازحة البريئة الهادفة الصادقة الموزونة مما يحقق هذا الهدف أيضا ، والدخول مع الناس ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم مما يحقق هذا ، والدعاء لهم وإظهار المحبة لهم بالقول والفعل ، ونفع الناس بالمقدور عليه من العلم والجاه والمال وإظهار الشفقة والنصح لهم كل هذه الأمور مما يكسب بها الداعية قلوب الناس وأعظم من ذلك كله الصدق مع الله تعالى والإخلاص له ، وحسن عبادته والإقبال عليه ، فإن من أقبل على الله تعالى بالصدق والتعبد والإخلاص أقبل الله تعالى بقلوب الناس عليه ، فإن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يقلبها كيف شاء ، كما في الحديث ، فمن أحبه الله تعالى فقد أحبه كل شيء ، ومن أبغضه الله تعالى فقد أبغضه كل شيء ، ففي الحديث الصحيح أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال " إِذا أحَبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلَ : إِنَّ اللهَ يحبُّ فلانا فأَحِبُّوه ، فيُحِبُّه أهلُ السماءِ، ثم يُوضَع له القَبول في الأرضِ ". أخرجه البخاري. وفي رواية مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللهَ إِذا أحبَّ عبدا دعا جبريلَ ، فقال: إِني أحبُّ فلانا فأحِبَّه ، قال : فيُحِبُّه جبريلُ، ثم ينادي في السماءِ ، فيقول : إِنَّ اللهَ يحبُّ فلانا فأحِبُّوه ، فيحبُّه أهل السماء ، ثم يوضَعُ له الَقبُولُ في الأرض ، وَإِذا أَبغض عبدا دعا جبريلَ عليه السلام ، فيقول : إِني أُبْغِضُ فلانا فَأَبْغِضْه، قال: فَيُبْغِضُه جبريلُ ، ثم ينادي في أهل السماء : إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فلانا فأَبغضوه ، ثم تُوضَعُ له البغضاءُ في الأرض "(1) وبالجملة فالأمر يحتاج إلى الحلم والرفق والصبر وكثرة الدعاء وقوة التضرع إلى الله تعالى ، والله تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .

 

(1) حديث صحيح , رواه البخاري 1 / 117 في الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه ، وفي البيوع ، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ، ومسلم رقم (1599) في المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات , وأبو داود رقم (3329) في البيوع , والترمذي رقم (1205) في البيوع , والنسائي 7 / 241 في البيوع .

(1) حديث صحيح , رواه مسلم رقم (144) في الإيمان ، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً و أحمد (5/386) (405) والبزار (7/263، رقم 2844)

(1) حديث صحيح , أخرجه البخاري في: 64 كتاب المغازي , ومسلم رقم (840) و (843) في صلاة المسافرين ، باب صلاة الخوف ، والنسائي 3 / 175 و 176 و 178 في صلاة الخوف .

(1) أخرجه أحمد (5/244، رقم 22172) ، وأبو داود (2/86، رقم 1522) والنسائي في الكبرى (6/32، رقم 9937) والحاكم (1/407 رقم 1010) وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين .

(2) أخرجه الترمذي رقم (2306) في الزهد ، باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس ، ورواه أيضاً أحمد في " المسند " 2 / 310 وابن ماجة رقم (4217) في الزهد ، باب الورع والتقوى ، والبيهقي في " شعب الإيمان " وهو حديث حسن .

(1) حديث صحيح , رواه البخاري 13 / 300 في التوحيد ، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى ، وفي الجهاد ، باب اسم الفرس والحمار ، وفي الاستئذان ، باب من أجاب بلبيك وسعديك , ومسلم رقم (30) في الإيمان ، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً, والترمذي رقم (2645) في الإيمان , و أحمد (5/228) .

(1) إسناده صحيح على شرط الشيخين , أخرجه الإمام أحمد رقم (12648) والحديث في "مصنف عبد الرزاق" (19688) ، ومن طريقه أخرجه الترمذي في "الشمائل" (239) ، وأبو يعلي (3456) ، والبزار (2735- كشف الأستار) ، وابن حبان (5790) ، والبيهقي 6/169 .

(2) إسناده صحيح , أخرجه أحمد رقم (13817) وأخرجه البخاري في "الأدب " (268) ، وأبو داود (4998) ، والترمذي في "السنن " (1991) ، وفي "الشمائل " (238) وغيرهم .

(3) إسناده حسن ، أخرجه أحمد (2/340) و البخاري في «الأدب المفرد» (265) والترمذي رقم (1991) في البر والصلة ، باب ما جاء في المزاح , وقال: هذا حديث حسن .

(4) حديث صحيح , أخرجه البخاري 10 / 436 في الأدب ، ومسلم رقم (2150) في الأدب ، وأبو داود رقم (4969) .

(1) رواه أبو داود رقم (4999) في الأدب ، باب ما جاء في المزاح , من حديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن العيزار بن حريث عن النعمان رضي الله عنه ، وإسناده حسن , و أحمد (4/271) والنسائي في الكبرى .

(2) الحديث ذكره العراقي في تخريج أحاديث الاحياء "المغني عن حمل الأسفار"[2/796/رقم 2921] فقال :" حديث زيد بن أسلم في قوله لامرأة يقال لها أم أيمن قالت : إن زوجي يدعوك : " أهو الذي بعينه بياض ..." الحديث . الزبير ابن بكار في كتاب " الفكاهة والمزاح " ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبدة بن سهم الفهري مع اختلاف .ا.هـ.

(3) رواه الترمذي في " الشمائل " باب ما جاء في صفة مزاح النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الحسن مرسلاً . قال العراقي في " تخريج الأحياء "  وأسنده ابن الجوزي في " الوفاء " من حديث أنس بسند ضعيف ، ورواه البيهقي أيضاً من حديث عائشة ، وكذا الطبراني في " الأوسط " .

(1) رواه البخاري 13 / 387 في التوحيد ، باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة ، وفي الأدب ، باب المقة في الله تعالى , ومسلم رقم (2637) في البر والصلة  باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده ، والموطأ 2 / 953 في الشعر ، باب ما جاء في المتحابين في الله ، والترمذي رقم (3160) في التفسير.

جميع الحقوق محفوظة الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ وليد بن راشد السعيدان