القاعدة السادسة والعشرون :- وسائل الدعوة توقيفية باعتبار ما خالف النص منها ، واجتهادية فيما لم يخالف النص . |
القاعدة السادسة والعشرون :- وسائل الدعوة توقيفية باعتبار ما خالف النص منها ، واجتهادية فيما لم يخالف النص . أقول :- هذه مسألة طال حولها الجدل ، وما اعتمدناه في هذه القاعدة هو الراجح إن شاء الله تعالى وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في هذه المسألة على ثلاثة أقوال ، فقيل بأنها اجتهادية مطلقا وهذا القول فيه توسع غير مرضي ، وقيل بأنه توقيفية مطلقا ، وهذا فيه إقفال للباب إقفال غير مرضي وقيل هي اجتهادية وتوقيفية ، فما دامت الوسيلة لا تتنافى ولا تتعارض مع الدليل ، فلا حرج فيها ، وأما الوسائل التي تتعارض مع شيء من الأدلة فإننا نمنعها ، فهي اجتهادية باعتبار ما لا يتعارض منها مع شيء من النصوص ، وتوقيفية باعتبار ما يتعارض منها مع الدليل ، فلا نفتح الباب مطلقا ، ولا نقفله مطلقا ، بل نفتحه في حدود الدليل ،لاوما تجاوز الدليل فإننا نقول :- لا خير فيه ، وهذا القول أظنه هو الراجح إن شاء الله تعالى ، وهو القول الوسط في هذه الأقوال ، وخير الأمور أوسطها ، وأنت خبير بأن هذا القول مفرع على قاعدة الوسطية عند أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى ، والتي تقول ( أهل السنة وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم ) فلا تضييق على الدعاة في الوسائل فيما لم يخالف النص الصحيح الصريح ، وإنما المنع في تلك الوسائل المخالفة للنصوص الصحيحة الصريحة ، ولسنا في هذا القول نتبع القاعدة اليهودية أن الغاية تبرر الوسيلة ، لا ، بل نحن نؤمن إن الغاية لا تبرر الوسيلة إلا بدليل من الشرع ، ولكننا لا نرى أن الوسائل التي لم تكن معروفة بأعيانها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من المحدثات إن لم تكن تخالف النصوص الثابتة ، فإن كان المقصود من توقيفية أنها موقوفة على الشرع ويجب أن لا تخالف الكتاب والسنة وطريقة السلف فهذا صحيح ،وهى بهذا المعنى توقيفية قال تعالى ] مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [ وقال صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وإن كان المقصود بالتوقيفي أنه يُقتصر على ما كان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ويترك ما حدث بعده مما لم يكن في زمانه وإنما مَردُه لتحسّن الصنعة مع أن أصله كان موجودا ويدخل في العموم المعنوي لما كان في عصره ، فإن كان هذا معنى توقيفي ؟فليست كذلك، فمثلا الكتاب والتأليف للعلماء من أعظم وسائل الدعوة ومع ذلك لم تكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ،إنما حدثت فيما بعد وأجمع عليه العلماء ، والذي في عصره كان كتابة كتب الرسائل ، ولم يكن التأليف في عصره ولا من بعده بل كان عمر ينهى عن الكتابة من أجل المحافظة على القرآن، ومع ذلك فلا شك أن أصول الدعوة توقيفي ، لكن الشأن في الأمور الحديثة ، وعلى كل حال فالمسألة خاضعة للنظر والاجتهاد ، فمن توصل بنظره واجتهاده إلى أنها توقيفية ، فليتعبد لله تعالى بهذا القول ، ولكن لا حق له أن يجعلها من المسائل العقدية الكبيرة التي ينكر فيها على المخالف ، بل على الجميع تقوى الله تعالى وبيان الحق وطرق الدليل ، وإحكام اللسان عن الكلام الذي لا ينبغي ، فمن قال بأنها توقيفية ، فلم يأت ببدع من القول ، ومن قال بأنها اجتهادية فلم يأت ببدع من القول ، ومن قال بأنها اجتهادية باعتبار وتوقيفية باعتبار كما هو القول الذي تعتمده هذه القاعدة فلم يأت ببدع من القول ، فمثلا ما يسمى بالمظاهرات التي يدعى فيها النظام إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل ، هذه الوسيلة لا تجوز لما فيها من الخروج على الحكام ، ولما فيها من الفوضى وتعريض النفس للخطر ، ولما فيها من إثارة الرأي العام على الحكام بما لا تحمد الأمة عقباه ، ولما فيها من إتلاف الأموال وإهلاك الحرث والنسل ، ولما فيها من المجاهرة بأخطاء الحكام أما لعامة ، ولما فيها من الإنكار العلني على الحكام ، وهذا له دوره الكبير في الفوضى وإثارة الفتنة ، ومثال ثان :- ما قاله الشيخ صالح آل الشيخ في شرح مسائل الجاهلية (ما يسمونه في زمن الإمام أحمد والشافعي ((التغبير)) التغبير نوع من الأشعار التي يُزهد بها الناس؛ يزهد فيها الناس بالدنيا ويرغبون فيها بالآخرة، كانت تُلقى على الناس على وجه فيه ألحان، وربما صاحبها طرق الجلود القديمة حتى ينفضّ عنها الغبار فسمّيت تلك الطريقة تغبيرا، أهل السنة أنكروها، وقالوا إنها بدعة، ونحو ذلك من كلامهم، بل أقاموا على أصحابها الحجة بأن هذه مخالفة للسنة ومخالفة للهدي,لم؟ لأن المقصود من تلك الوسيلة هي ترقيق قلوب الناس , والشرع القرآن والسنة إنما أتى لترقيق قلوب الناس، فإذا أُحدثت طريقة في هذه المسألة وهي الترقيق والترغيب، غير الطريقة الأولى، فإنها ولو كانت نافعة في الدعوة، لكنها وسيلة محدثة وتلك الوسيلة ليس بابها الاجتهاد، والتغبير من جنس ما يكون في هذا الزمان من الأناشيد الصوفية ونحو ذلك ممن تأثر بهم من الأناشيد وغيرها، هذه مشابهة للتغبير الأول الذي نهى عنه أهل العلم ) ومثال ثالث :- ما عرف في كثير من الأزمنة بإحياء حب النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتفال بليلة مولده ، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ، أو الاحتفال بليلة الهجرة ، كل من يفعل ذلك إنما يزعم أن فيه تجديدا لحبه صلى الله عليه وسلم وتذكر أحواله ودعوته وجهاده ومناضلته في حياته لنصرة دين الله تعالى ، ولكن هذه الأفعال أفعال منكرة ، قد أنكرها سلف الأمة وأئمتها ، ولم يرتضوها ، وجعلوها داخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي قوله " وكل بدعة ضلالة " فهذه الوسائل ليس الباب أمامها مفتوحا ، لأنها وسائل قد عورض بها النص الصحيح الصريح ، ومثال رابع :- المناظرات المفتوحة العلنية أمام العامة ممن قد لا يفقه أمر دينه ويخاف عليه من الضرر ، فإعلان هذه المناظرات مما يزعم أنها من الوسائل الدعوية في تبصير الناس بدينهم ، وكلها في الحقيقة ما جلبت على المسلمين إلا الشر والضرر والبلاء ، وقد حذر السلف رحمهم الله تعالى من مناظرة أهل البدع ، وحذروا من الدخول معهم في المهاترات الكلامية أمام العامة ، بل وحذر كثير منهم رحمهم الله تعالى من تأليف الكتب في عرض الشبه الكلامية مقرونة بالرد عليها ، لأنها قد تقع في يد من يفهم الشبهة ولا يفهم الجواب ، فسدا لذريعة فساد الفهم والتخبط في الاعتقاد أحكم أهل السنة رحمهم الله تعالى سد هذا الباب ، والمصلحة فيما رأوه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ، ونحن على دربهم سائرون ، فقد دعينا عدة مرات للمناظرة في بعض المحافل ولكننا رفضنا خوفا على دين العامة من الخلل وسدا لذريعة فساد الفهم ، فترك العامة على سلامة فطرتهم هو الأولى ، فالدعوة إلى صحيح الاعتقاد بعقد المناظرات العامة المنقولة على الهواء ليراها ملايين الناس ليس من طريق الدعوة الصحيح لأن السلف نهوا عنها وحذروا منها ، والله أعلم . ونقول أيضا :- إنه ليس من وسائل الدعوة الصحيحة الدخول في البرلمانات الكافرة ، بحجة الوصول إلى الحكم ، لأن هذه البرلمانات قد بنيت على الكفر ومخالفة شريعة رب العالمين ، والدخول فيها إقرار لها ولبقائها ، ولأنه في الأعم الأغلب لا يمكن أهل الإيمان فيها بالفوز ، وإن فازوا بكثرة الأصوات فإن الدول الكافرة لا تمكنهم من حكم الدولة بالإسلام ، فالدخول فيها إنما يتضمن المفاسد الخالصة أو الراجحة فلا خير في هذه الوسيلة ولا بركة فيها ، ولا يجني منها المسلمون إلا الويلات ، فالحذر الحذر من الدخول في هذه البرلمانات الكافرة التي بنيت على نسف شريعة الله تعالى ، واستبدالها بالقوانين الوضعية الكفرية الوثنية ، والله أعلم . ونقول أيضا :- الدعوة إلى الله تعالى بترجمة معاني القرآن الكريم ، وهذا لا حرج فيه ،بل فيه من الخير الكثير والنفع العظيم ما الله تعالى به عليم ، ولكن لا بد وأن تصدر هذه الترجمة من الجهات المعتمدة والتي يشرف عليها أهل السنة والجماعة حتى لا يدخل فيها بعض البدع من تحريف الكلم من بعد مواضعه ، مع أن ترجمة معاني القرآن الكريم ليست من الأمور المعروفة في العهد الأول ، ولكنها تدل عليها الأدلة الكثيرة الآمرة بإبلاغ هذا القرآن وإسماعه للناس ، وهذه الترجمة لا تأخذ حكم القرآن الكريم، ولكنها تجري مجرى كتب التفسير ، والله أعلم . ونقول أيضا :- الدعوة إلى الله تعالى بتوزيع الأشرطة النافعة الطيبة والتي تتضمن تصحيح العقيدة وتصحيح العبادة ، ونشر الخير والسنة وإحياء الدين وإماتة البدع ، وكذلك طباعة الكتب النافعة الطيبة ،كل ذلك من الأمور الطيبة التي فيها الخير الكثير والنفع العظيم ، مع أن الدعوة بطباعة الكتب ليس من المعروف في العهد النبوي الكريم، ولكن لما لم يكن ثمة دليل يمنع منها فهي من الوسائل الدعوية المقبولة ، والتي نتج عنها من الخيرات ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وعلى ذلك انعقدت كلمة أهل السنة والأئمة ، والله أعلم . ونقول أيضا :- الدعوة إلى الله تعالى عبر مواقع الشبكة العنكبوتية ، بافتتاح موقع أو المشاركة في المواقع المتاحة الطيبة ، فالدعوة إلى الله تعالى في هذه المنتديات طيب جدا ، وقد حصل فيه من النفع ما الله به عليم ، ولكن لا بد من مراقبة الله تعالى ، وتقواه جل وعلا ، والحذر من الدخول إلى بعض المواقع الكفرية الإلحادية ، أو المواقع الإباحية الفاتنة ، وإلا فالنتائج الدعوية في هذه الشبكة لا يمكن إنكارها ولله الحمد والمنة ، والله أعلم . والمهم حتى لا نطيل :- أن من منع الاجتهاد في وسائل الدعوة وبناها على التوقيف إنما نظر إلى تلك الوسائل المخترعة التي خولف بها النص وعورض بها الدليل ، فغلب جانب التوقيف فيها ، ومن قال بأنها اجتهادية إنما نظر إلى تلك الوسائل الطيبة التي أخرجها الله تعالى لعباده ولا تخالف شيئا من الأدلة فجاء القول الثالث ليجمع بين القولين وتتحرر به وجهة نظر الفريقين ، فإن كانت تلك الوسيلة تخالف شيئا من الأدلة فنقف في وجهها ونقول:- وسائل الدعوة توقيفية بهذا الاعتبار ، وإن كانت الوسيلة لا تخالف شيئا من النصوص ، فنقول :- لا حرج فيها ، لأن وسائل الدعوة اجتهادية بهذا لاعتبار ، ولعلنا قد بينا لك ما نريده إن شاء الله تعالى ، والله ربنا أعلى وأعلم . |