القاعدة الثامنة والعشرون :- الدعوة لا بد وأن يستجمع فيها بين مبدأي الترغيب والترهيب . |
القاعدة الثامنة والعشرون :- الدعوة لا بد وأن يستجمع فيها بين مبدأي الترغيب والترهيب . أقول :- إن المتقرر في قواعد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن أهل السنة وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم ، وصور تلك الوسطية كثيرة جدا ، ومن صورها هذه القاعدة ، فهذه القاعدة التي نحن بصدد شرحها لك منبثقة من تلكم القاعدة العريقة الكبيرة الطيبة ، وبيان ذلك أن يقال :- إن الله تعالى قد أمرنا بأن نستجمع في عبادته بين الرغب والرهب ، فلا يجوز لنا ولا يحب منا أصلا أن نعبده بالخوف وحده ، ولا أن نعبده بالرجاء وحده ، لأن من عبد الله تعالى بالخوف وحده فهو على شفا جرف أن ييأس من رحمة الله تعالى وأن يقنط من روح الله تعالى ، ومن عبد الله تعالى بالرجاء وحده فهو على هاوية من الأمن من مكر الله تعالى ، فلا هذا صواب ولا الأول صواب ، بل الحق الحقيق بالقبول والاعتماد والذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة رحم الله تعالى أمواتهم وثبت أحياءهم هو الجمع بين الرغب والرهب ، هو حال عباد الله الصالحين كما قال تعال ] إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [ أي يعبدوننا راغبين فيما عندنا وراهبين من عقوبتنا ، وقال تعالى] أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ فقوله {يحذر الآخرة} هذا هو الخوف والرهب ، وقوله {ويرجو رحمة ربه} هذا هو الرجاء والرغب ، ولا تستقيم أحوال الناس إلا بهذا الأمر ،ولذلك ما ضل من ضل في هذا الباب إلا بسبب الإخلال بهذا الأمر ، وقد ضل في هذا الباب المرجئة والوعيدية ، وذلك أن الناس قد انقسموا في هذه المسألة إلى ثلاث فرق، طرفين ووسط، فمن الناس من عبد الله تعالى بالرجاء فقط تغليباً منه لأدلة الوعد وهم المرجئة فإنهم غلبوا جانب الرجاء ولم ينظروا إلا إلى أدلة الوعد فقط وغفلوا أو نقول:- تغافلوا عن الأدلة الأخرى، وأوصلهم ذلك الأمر إلى الوقوع في الذنوب والمعاصي وموبقات الآثام بلا خوفٍ ولا حياء، ذلك لأن فعل الذنوب عندهم لا دخل فيه في نقص الإيمان، فأمنوا مكر الله تعالى وقد قال تعالى ] أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [ والفرقة الثانية:- عبدت الله تعالى بالخوف فقط، وذلك تغليباً منهم لأدلة الوعيد فقط فما نظروا إلى أدلة الوعد ، وإنما قصروا نظرهم على أدلة الوعيد فقط، فأوصلهم ذلك إلى الوقوع في اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله وهؤلاء هم الوعيدية وغيرهم, وكلا القولين خطأ وقصور, فالأولون فرطوا وتساهلوا والآخرون أفرطوا وشددوا وتجاوزوا الحد المشروع وكل واحدة من الفرقتين أخذت بطرفٍ من الأدلة فقط وتركت الطرف الآخر وهذا مجانب لمسلك الوسطية الذي سار عليه أهل السنة الذين عبدوا بالخوف والرجاء, فجعلوا العبادة قائمة عليهما, هذا هو منهج القرآن فإنه يقرن الترغيب بالترهيب, وذلك في آياتٍ كثيرة, فأهل السنة يجمعون في تعبدهم بين الرغب والرهب, وهذا ينتج الخشية, فالخشية مزيج من الخوف والرجاء فإن من عبد الله بالرجاء فقط أمن من مكر الله, ومن عبد الله بالخوف فقط أيس من روح الله ورحمته ومن عبد الله بهما فهو الموحد الصادق, فالخوف والرجاء بالنسبة للعبادة هما كجناحي الطائر, ومن المعلوم أن الطائر لا يستقيم طيرانه إلا بالجناحين كليهما, فالأصل عند أهل السنة استواء الخوف والرجاء, فالخوف مانع من الوقوع فيما نهى الله أو ترك ما أمر الله به والرجاء يدفع العبد لاستطلاع ثواب الله تعالى ورحمته ومغفرته وقبول عمله, ومن المعلوم في الفطر السليمة أن الأمن من مكر الله واليأس من روح الله أمران خطيران يوصلان العبد إلى الهلكة والنجاة هو خلطهما وعبادة الله تعالى بهما, ولكن وإن كان الأصل استواءهما في قلب العبد إلا أنه يغلب أحدهما إذا توفرت مقتضياته فعند الموت وحلول سكراته يغلب جانب الرجاء حتى يوصله ذلك إلى إحسان الظن بربه جلَّ وعلا, وكذلك عند توبته من الذنوب والمعاصي يغلب جانب الرجاء أيضاً حتى لا يقنط من توبة الله عليه, وأما عند الصحة والغنى وخوف الوقوع في المعصية فإنه يغلب جانب الخوف, فإذا ورد لأحدهما سبب أو حالة تقتضي تغليب أحدهما فليغلبه وإلا فالأصل استواءهما, وقول أهل السنة هذا هو القول الوسط لأنه أخذ بكل أطراف الأدلة وعمل بكل النصوص الواردة في هذا الشأن, وذلك لأن أهل السنة- رحمهم الله تعالى- وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم . فالداعية إلى الله تعالى لا بد وأن يدعو إلى الله تعالى بين الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى ، وهذا له أدلة كثيرة في القرآن ، فتراه يقرن بين الآيات التي تتكلم عن الجنة وما فيها من النعيم المقيم والدرجات العلى ، وبين ذكر النار وما فيها من أنواع العذاب الأليم والشقاء الأبدي ، وتراه يجمع بين وصفه بالمغفرة والرحمة وبين كونه شديد العقاب ، كما قال تعالى ] نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [ وقال تعالى ] غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [ فلا تستقيم حياة الناس في أمورهم الخاصة والعامة والتعبدية والعادية إلا بالجمع بين الخوف والرجاء ، فعلى الداعية أن يكون كلامه في الدعوة جامعا بين هذين الأمرين ، ولعل الأمر قد اتضح إن شاء الله تعالى ، والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم . |