القاعدة الأربعون :- التفاؤل والأمل مطلب في العطاء والثبات والاستمرار .

القاعدة الأربعون :- التفاؤل والأمل مطلب في العطاء والثبات والاستمرار .

أقول :- في الصحيحين من حديث عَائِشَةَ، زَوْجِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ أُطَبِّقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"(1) لو تأملان هذا الحديث لوجدنا أن رسوخ الأمل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم والتفاؤل الطيب بالمستقبل الزاهر هو الذي يحدوه للثبات والاستمرار في دعوته ، إنه لما خابت كثير من المحاولات في الآباء المعاندين لم تنقطع نفسه وتقف جهوده عند معاندة الكبار ، بل اطلع على من في أصلابهم وأحسن الظن بربه جل وعلا بأنه سيخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا ، فأي قلب هو هذا القلب الكبير ، وأي أمل هذا الأمل العريض في القبول والاستجابة ، لكنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله تعالى ، إننا لا نحب أن نسمع من الداعية عبارات التفتير واليأس والقنوط من واقع الناس ، فإنها لأحدى الكبر إن صدرت من أفواه الذين هم أمل الأمة بعد الله تعالى ، وأي شيء ننتظره من بقية الناس إن كان اليأس والقنوط من الواقع قد اخترق قلوب الدعاة إلى الله ، والذين هم ألصق الناس بمعرفة الشرع ، ولذلك فمهما تأزم الموقف ، ومهما كثر الفساد ، ومهما حصل من الصدود فلا تزال الآمال قائمة ، ولا تزال الأمة بخير ، والمستقبل لهذا الدين وإن رغمت الأنوف ، والبشائر بالنصر والتمكين تترى علينا في الليل والنهار ، ولا يزال الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، ولا تزال كلمة الحق هي العليا، نعم الباطل كثير ، ولكنه كالزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، ولذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ، فعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول " لا طيرة وخيرها الفأل " قالوا وما الفأل ؟ قال "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم "(1) وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة " وفي رواية " الكلمة الطيبة"(2) فإن النفوس لها وقود يسيرها نحو العزيمة الماضية ألا وهو التفاؤل والأمل فلا تيأس من إصلاح واقع الناس مهما كان متأزما ، فإن فرج الله تعالى قريب ، ولكنه الابتلاء والامتحان وإن التفاؤل الطيب باب من أبواب حسن الظن بالله تعالى ، فتفاءل وعود نفسك على التفاؤل ، فإياك والتشاؤم، ولسنا نعني بهذا الكلام أن يسبح المرء منا في أوهام التفاؤل السلبي بل المقصود التفاؤل الإيجابي الذي يبعث الأمل ويشحذ الهمم ويقوي العزيمة على المبادرة واتخاذ أنجع الأسباب لبلوغ الهدف.وعليه فلا بد من النظر إلى الواقع بإيجابية ، ولا بد من تشمير الهمة وتقوية العزائم وعدم الميل إلى الدعة والركون ، فإن أخطر شيء يواجهنا معاشر الدعاة هو نفوذ اليأس إلى قلوبنا ، قال تعالى ] فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [ وقال تعالى ] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [ وقال تعالى ] كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [ فمن تدبر هذه النصوص وما أشبهها فكيف ييأس من فضل الله تعالى ، وكيف يخالط قلبه القنوط من روح الله تعالى ؟ ولكن لا بد وأن تنتبه إلى أن الكثير من الدعاة الذين يصيبهم الفتور واليأس من الفرج إنما علتهم أنهم جعلوا قضايا الأعيان حاكمة على النصوص العامة ، وهذا من أخطر الخطر ، فتراه يقلب طرفه في عين الأحداث الجارية في الساحة وكثرة أهل الباطل وضعف أهل الحق ، ويجعل مجريات هذه الأحداث حاكمة على النصوص العامة التي دلت على أن النصرة لأهل الحق ، وأن المستقبل لهذا الدين ، وهذا من أعظم ما يكون، بل الحق الحقيق هو أنك إن واجهتك فتنة أو مصيبة أو حلت في واقعك كارثة فلا تنظر لها بمعزل عن النظر في الأدلة العامة ولتكن تلك الأدلة العامة التي ذكرت لك طرفا منها هي الحاكمة على هذه القضية المعينة ، فإنك إن نظرت بهذه النظرة الشمولية الكلية فلن يتطرق الأسى والحزن واليأس إلى قلبك مهما كانت الأحوال والظروف ،ولذلك فالمتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن القضايا الكلية هي التي تحكم قضايا الأعيان لا العكس ، فمثلا لو أنك دعوت الله تعالى دعاء طويلا ولم ترى نوع استجابة لهذا الدعاء، فلا تظن بهذه القضية العينية أن الله تعالى ليس مجيب الدعوات ولا بقاضي الحاجات ، بل هو مجيب الدعوات وقاضي الحاجات ولو لم تقض حاجتك أو يستجب دعاؤك ، فلا تجعل قضايا الأعيان حاكمة على الأصول الكلية العامة ، بل اجعل القضايا الكلية العامة المقررة بالأدلة هي الحاكمة على هذه القضية المعينة ، فإن قلبت طرفك في واقع المسلمين في بقاع الأرض ورأيت ما يضيق به صدرك فرد الأمر إلى تلك القضايا الكلية العامة تجد أن قلبك قد عاد له الأمل وأن الروح تنفست الصعداء ، وأن إشراقة الأمل قد تجددت في نفسك ، ولكن المسكين من يجعل تلك النازلة هي الحاكمة على الأدلة العامة ، ويعجبني في هذا الأمر فضيلة شيخنا الشيخ ناصر العمر وفقه الله ، فإنه لا يزال متفائلا ناظرا إلى الأمور بالنظر الواسع ، ففي وقت تأزمت فيه الأمور وحلت فيه النكبات على المسلمين كان الشيخ يقرر أن المستقبل لهذا الدين وأن هذه الأحوال والحوادث التي تمر على الأمة إنما هي مفاتيح النصر والتمكين ، فيجعل من العسر يسرا ، ومن الضيق فرجا ، ومن صورة الموت حياة ، وهكذا ينبغي أن نكون ، فالداعية لا ينبغي له أن يترك الدعوة بمجرد ضيق مر عليه ولا لمجرد نازلة حلت على الأمة ، بل الداعية الموفق الناجح هو من يمضي قدما بالعزيمة الصادقة والدعوة الهادفة والكلمة النيرة والقلب الذي يشع نورا وأملا وإشراقا ، وأنا وإن لم أكن كذلك - ولا أزكي نفسي - ولكن عدم تحقيقي للأمر لا يمنع من الدعوة إليه ، فالله الله أيها الدعاة الموفقون في هذا الأمر ، لا بد من استمرار العطاء ، مهما تأزمت الأمور ، ولا بد من الوقوف في وجه المتغيرات ، وإن تفاقمت وادلهمت الدواهي على الأمة ، ولا بد من زرع الأمل في النفوس وإن حلت البواقع ، ولا بد من بعث الأمل بالفرج القريب وإن أظلم ليل الظلم والكفر ، فالفرج قريب ، والأمل في الله تعالى لا ينقطع ، فلا نيأس معاشر الدعاة من الإصلاح والتوجيه والأمر بيد الله تعالى من قبل ومن بعد ، وأزمة هذا الكون تحت تصرفه وقهره وسلطانه جل وعلا ، ولو شاء جل وعلا لآمن من في الأرض كلهم جميعا ، ولكن الابتلاء والامتحان ، ولا نكون كالذين قال الله تعالى فيهم ] وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [ فعلى الداعية أن يغذي قلبه بجرعات من الأمل ليواصل مشوار الدعوة إلى الله بلا تعب ولا ملل وبدون فتور ولا كلل ، فلا يقلق القلوب ولا يزعج الأرواح مثل اليأس والقنوط والفتور بسبب واقع الأحداث على الأمة ، فوصيتي للدعاة وأهل العلم أن يزرعوا الأمل في قلوب الناس ، وأن يبينوا لهم أنه مهما تداعت الخطوب فالمستقبل لهذا الدين ، ولن يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله كلمة الإسلام بعز عزيز وبذل ذليل ، والله تعالى ناصر دينه ومعل كلمته ، فكما أننا نثق بأن الله تعالى هو الذي يتولى حفظ كتابه ، وأنه لن تطوله يد التغيير والتحريف والتبديل ، فكذلك يجب علينا أن نثق بأنه جل وعلا هو المتكفل بنصر دينه وإعلاء كلمته ، ولكن لا بد وأن نبذل المقدور عليه في نصر الدين والدعوة إلى منهج الله تعالى ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، والله تعالى من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .والله أعلم .

 

(1) رواه البخاري 6 / 224 و 225 في بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة ، وفي التوحيد ، باب {وكان الله سميعاً بصيراً} ، ومسلم رقم (1795) في الجهاد ، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين , والنسائي في تحفة الأشراف (1/16700) .

(1) حديث صحيح , أخرجه البخاري في صحيحه (5755) وفي الأدب المفرد (910) ومسلم (2223) و أحمد (7618) .

(2) أخرجه الطيالسي (ص 265، رقم 1961) . وأحمد (3/118، رقم 12200) والبخاري (5/2171، رقم 5424) ، ومسلم (4/1746، رقم 2224) ، وأبو داود (4/18، رقم 3916) ، والترمذي (4/161، رقم 1615) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (2/1170، رقم 3537) .

 

جميع الحقوق محفوظة الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ وليد بن راشد السعيدان