القاعدة الحادية والأربعون:- التحلي بالأخلاق العالية والنبل الكريمة مطلب في التوفيق والنجاح. | ||||
القاعدة الحادية والأربعون:- التحلي بالأخلاق العالية والنبل الكريمة مطلب في التوفيق والنجاح. أقول :- لقد وردت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة تأمر بالأخلاق الكريمة والنبل العالية ، وتخبر بما للمتحلي بها من عظيم الأجر وكبير الثواب ، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه أنه حل منها النصيب الأوفى وصارت له المنزلة الكبرى ، قال تعالى ] وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ فبهذه الأخلاق العالية دخل الناس في دين الله أفواجا ، فقد كانت الوفود تسلم بين يديه بسبب كبير أخلاقه وحسن ضيافته وكبير أدبه واحترامه للمدعوين أيا كانوا ، ولا غرابة في هذا ، فإن الأخلاق الكريمة لها دورها الكبير في استمالة القلوب ومحبة الداعية وتغلغل محبته في قلوب الناس ، فعلى الداعية أن يتحلى بتلك الأخلاق الكريمة قال صلى الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "(1) وقال عليه الصلاة والسلام " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ"(2) وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه "وَاهْدِني لأحْسَنِ الأخْلاقِ لا يَهْدِي لأحْسَنها إلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَها لا يَصْرِفُ سَيِّئَها إِلاَّ أَنْتَ"(3) وما ذلك إلا لأهمية الأخلاق الحسنة للمسلم عموما وللداعية على وجه الخصوص ، وفي الحديث كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يقول " اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأخْلاقِ وَالأعْمالِ وَالأهْوَاءِ " قال الترمذي : حديث حسن(4) . وقال صلى الله عليه وسلم " أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق"(5) وقال عليه الصلاة والسلام " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقاً " وقال عليه الصلاة والسلام " إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم، القائم " وفي الحديث " كان خلقه القرآن "(1) ويقول معاذ رضي الله عنه :- كَانَ آخِرُ مَا أوصَاني بِهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ وَضَعْتُ رِجلي في الغَرْزِ أنْ قال "يَا مُعاذُ ، أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ"(2) رواه مالك في الموطأ، وقال عليه الصلاة والسلام " مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي مِيزانِ المؤمِنِ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ يَبْغُضُ الفَاحِشَ البَذيءَ "(3) والأدلة الحاثة على التحلي بمعالي الأخلاق كثيرة لا تكاد تحصر ، وقد جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله" البر حسن الخلق "(4) وفي المقابل فقد رهبت الشريعة من مساوئ الأخلاق ، وحذرت من الخلق البغيض ، كما هو معروف ، وحيث كان الكلام على الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن يتحلى المسلم عموما والداعية على وجه الخصوص ،فإني أرى أنه من المناسب أن نعدد جملا من الأخلاق الرفيعة التي تهم كل مسلم فأقول:- الأول :- الصدق ، قال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [ وقال تعالى ]وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[ وقال عليه الصلاة والسلام " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ،وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار "(5) وقال عليه الصلاة والسلام " التَّاجِرُ الأمينُ الصَّدُوقُ : مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقين والشُّهداء " أخرجه الترمذي(6). فإذا كان في تجارة الدنيا ، فكيف بشأن الصدق في تجارة الآخرة ، لا جرم أن الأجر أعظم وأكبر ، وعن أبي الحوراء السعدي ربيعة بن شيبان قال : قلتُ للحسن ابن علي رضي الله عنهما: ما حفظتَ من رسولِ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : حفظتُ منه " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلى ما لا يَرِيبُكَ ، فإِن الصِّدْقَ طُمأْنينة والكذبَ رِيبَة ". أخرجه الترمذي، وفي الصحيح في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فسدت عليهم الغار " إِنَّهُ واللهِ يا هؤلاء لا ينجيكم إِلا الصدقُ " وقد نجى الله تعالى بالصدق الثلاثة الذين خلفوا ، في قصة معروفة ، فالداعية إلى الله لا بد وأن يكون متحليا بهذه الصفة العظيمة ، فيكون صادقا في حديثه ، وفي دعوته ، وأعظم الصدق الصدق مع الله تعالى ، فلا يعلم الله تعالى من قلبك في دعوتك إلا إرادة وجه الله تعالى والدار الآخرة فالداعية الموفق الناجح هو من تحرى الصدق في باطنه مع الله تعالى ، وفي ظاهره مع عباد الله تعالى وإنه ليقبح بالداعية أن يعرف بأنه كذاب ، وما أقبح التغامز عليه وهو يتكلم من الحاضرين بأن لا تصدقوه فلا تفلح الدعوة إلا إن جرت بلسان الصدق في الباطن والظاهر ، ولا تكون لها الآثار الطيبة إلا إن كان الصدق هو مبدؤها ومنتهاها، والله المستعان . الثاني :- الأمانة ، وهي قرينة الصدق ، بأن يكون أمينا في كلامه وودائعه في أداء الحقوق لأهلها وبرد الأمانات إلى أصحابها ، فلا يعرف بخيانة ولا بتدليس ، يكون أمينا في بيعه وشرائه وأداء ديونه وغيرها من الأمور ، فالأمانة حمل ثقيل ، قال تعالى ] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [ وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، وقد رأيتُ أحدَهما ، وأنا أنْتَظِرُ الآخر ، حَدَّثنا أنَّ الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرِّجال ، ثم نزل القرآن ، فَعلِمُوا من القرآن ، وعلموا من السُّنَّة. ثم حدَّثنا عن رفْع الأمانة ، فقال " ينامُ الرجُلُ النومَةَ ، فتُقْبَضُ الأمانةُ من قلبه ، فيظَلُّ أثَرّها مِثْلُ أثَرِ الْوَكْتِ ، ثمَّ ينامُ النَّومةَ ، فَتُقْبَض الأمانةُ من قبله ، فيظلُّ أثَرهُا مثْلُ أثَرِ الْمجْلِ ، كَجَمْرِ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ ، فَتراه مُنْتبِرًا ، وليس فيه شيءٌ - ثم أخَذَ حصى فدحْرَجَهُ على رجْلِهِ - فيُصْبِحُ النَّاسُ يتبايَعون ، فلا يكاد أحدٌ يُؤدِّيَ الأمانةَ ، حتَّى يُقالُ : إنَّ في بني فلانٍ رَجُلاً أمينَا ، حتى يقال للرجل : ما أجْلَدَهُ ، ما أظْرَفَهُ ، ما أعْقَلَهُ ، وما في قلبه مِثْقَالُ حبَّةٍ من خَردلٍ من إيمانٍ ، ولقد أتى عليَّ زمانٌ وما أبالي أيّكُم بايعْتُ ، لئِن كان مُسلمًا ليَرُدَّنَّه عليَّ دينُهُ ، وإنْ كان نَصْرانيًا أو يَهوديًا ليَرْدَّنه عليَّ ساعيه ، وأما اليوم فما كنتُ أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا " أخرجه البخاري ومسلم(1) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يُحدِّثُ القومَ ، جاءَهُ أعرابيٌّ فقال : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ ، فقال بعض القوم : سَمِعَ ما قال ، فكره ما قال ، وقال بعضهم :- بل لم يَسمع ، حتَّى إذا قَضَى حديثَه ، قال " أين السائل عن الساعة ؟" قال : ها أنا يا رسول الله ، قال " إذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظر الساعة " قال : كيف إضاعتُها يا رسول الله ؟ قال " إذا وُسِّدَ الأمْرُ إلى غير أهله فانتظر السَّاعة " أخرجه البخاري(1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أدِّ الأمانةَ إلى من ائْتَمنَكَ ، ولا تَخُنْ مَنْ خانَك " أخرجه الترمذي(2) ، وقال عليه الصلاة والسلام " إنَّ الخازِنَ المسلِمَ الأمينَ الذي يُعطي ما أمِرَ به فيعطيه كاملاً مُوَفَّرًا ، طَيِّبَةً به نَفْسُهُ ، فيدفَعهُ ، إلى الذي أمِرَ له به ، أحدُ المتَصَدِّقِينَ "(3) وإن الدعوة وإبلاغ العلم من أعظم الأمانات التي لا بد من أدائها على الوجه المأمور به شرعا ، فأمانة الداعية من أهم الأمور التي لا بد وأن يتحلى بها ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف في قومه بالصادق الأمين ، ولا سيما أمانة أداء العمل الموكل له من قبل ولي الأمر على الوجه المأمور به في النظام ، فإن الداعية منظور له بعين الرقابة التي لا تهمل شيئا من فهواته ، والله المستعان . الثالث :- الرفق ، وقد قدمنا طرفا من الكلام عليه فيما مضى ، قال عليه الصلاة والسلام "ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه " وقال " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " وقال عليه الصلاة والسلام " إِنَّ اللهَ عز وجلَ رَفيق يحِبُّ الرِّفق ، ويُعْطي عليه ما لا يُعطي على العُنْفِ " وقال عليه الصلاة والسلام " مَنْ يُحرَمِ الرِّفقَ يُحرَم الخيرَ كلَّه " وقال عليه الصلاة والسلام " مَن أُعطِيَ حَظَّهُ مِن الرِّفق فقد أُعْطِيَ حَظَّهُ مِن الخَيرِ ، وَمنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِن الرِّفق ، فقد حُرِم حَظَّهُ من الخير " والله المستعان. الرابع :- الحلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - للأشجّ - أشجِّ عبد القيس " إنُّ فيك خَصلتَيْن يُحبُّهما الله تعالى : الحلمُ والأناة " وقال عليه الصلاة والسلام " وإنما الحلم بالتحلم" رواه الدارقطني وصححه الألباني ، فهذا الخلق العظيم أمر مهم للداعية وله أسوة حسنة بخيرة خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ففي صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال : كنت ماشياً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة قال أنس : فنظرت إلى صفحة عاتق النبي وقد أثرت فيها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال الأعرابي : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر له بعطاء . فانظر إلى حلمه وتواضعه عليه الصلاة والسلام على هذا الأعرابي , فيلزم الداعية التخلق بهذا الخلق الحسن ولكن لا يصل به الحال إلى درجة الذل فأحياناً يصفح عمن أساء إليه لأنها من صفات المؤمنين وأحياناً أخرى ينتصر لنفسه لتظهر قوته ومكانته ويرهبه أعداء الله عز وجل 0 قال تعالى ] وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [ والله المستعان . الخامس :- الكرم والسخاء بتوسط فلا إفراط ولا تفريط ، ما أجمل الكرم إن صدر من أهل الدعوة إلى الله تعالى ، ما أجمل أن يجد الفقير والمحتاج عندهم بغيته من أمور المال والنفع بالجاه ، إن باب الداعية إلى الله تعالى لا بد وأن يكون مهبطا لأهل الحاجة ، وأن يكون قلبه قبل ذلك مفتوحا لأهل الحاجة من الفقراء والمساكين ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير والصدقة ، وكان يوصف جوده بالخير بأنه أسرع من الريح المرسلة ، لا سيما إن كان قد وسع الله تعالى عليه في المال وأعطاه من الجاه ما لم يعط غيره، إنه لقبيح بالداعية أيما قبح أن يمنع المحتاج إليه مما لا يضر به في دين ولا دنيا ، ألا ترى قول الله تعالى مادحا الأنصار بقوله ] وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ وقد ضرب الأنصار أروع المثل في التنازل والتضحية لإخوانهم من المهاجرين بعد أن هاجروا لله تعالى وتركوا أموالهم وأوطانهم وأولادهم لله تعالى فرارا بالدين ، وهكذا ينبغي أن يكون الداعية إلى الله تعالى ، أن البخل وشح النفوس من الأخلاق الذميمة التي نهى الله تعالى عنها وحذر منها وأخبر أن الفلاح في التباعد عنها فقال تعالى ]وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ وقال تعالى ] وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء [ ومن صفاته العظيمة صلى الله عليه وسلم المشهود له بها أنه كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، والكرم والسخاء هو الدعامة الكبيرة بعد توفيق الله تعالى في محبة الناس وإقبال القلوب على قبول الدعوة ، ألا ترى أن الله تعالى قد جعل للمؤلفة قلوبهم سهما في الزكاة ، لأنهم المطاعون في عشائرهم ويرجى بثباتهم أو إسلامهم ثبات أو إسلام من تحت أيديهم ، ومن محبته جل وعلا للكرم فقد تسمي بالكريم ، ووصف نفسه بالكرم ، وذم اليهود بوصفه لهم بأن أيديهم مغلولة ، لما وصفوه بالبخل ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وعاب على قوم وتوعدهم بالعذاب لما أعطاهم المال بعد وعودهم بأنهم سينفقون ويبذلون في وجوه الخير والبر والإحسان فأخلفوا الله تعالى ما وعدوه ، قال تعالى ] وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [ وفي الحديث "أنفق أنفق عليك"(1) وفي الحديث " ما نقص مال من صدقة "(2) فالمعونة بالجاه والمال من الأمور التي تشرح النفوس وتوجب القبول وتشرح الصدور للداعية إلى الله تعالى ، وقد جهز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة في عزوة تبوك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ما ضر عثمان ما فعل بعد "(3) وقال تعالى مادحا أهل الإيمان بالصفات التي ينبغي أن يتحلوا بها ] وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [ وقال تعالى فيمن أراد طريق التجارة الحقيقية ] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [ فما أجمل بالداعية أن يكون من السباقين في البذل والإنفاق في وجوه الخير ، طارقا أبواب البر ، معينا للضعفاء والمساكين ومغيثا للملهوفين ، وساعيا بماله وجهده وجاهه في سد خلة أهل الحاجة ، وهذا فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وقد كان الشافعي رحمه الله تعالى يتحسر على قلة المال أن لا ينفقه في سبيل الله تعالى مع كثرة السائلين الذين يظنون أن الإمام الشافعي كان ذا ثروة كبيرة ، ولكنه كان قليل ذات اليد ، فكان إذا جاءه السائل ولم يجد ما يعطيه ، كان يتمثل بهذه الأبيات :-
وإن كاتب هذه الأسطر قد آتاه الله تعالى حب العطاء وحب الإعانة ، ولكنه لا يجد ما ينفقه في هذا السبيل ، فكم من الحسرات على فقد المال أن لا ننفقه في سبيل الله تعالى ، وعسى الله تعالى أن يفتح باب المال على عبده الضعيف وأن يسلطه على هلكته في الحق ، كم يضيق صدري إن جاءني أحد المحتاجين وقد امتلأ قلبه بالعطاء والبذل ، ثم يرجع خائبا من عندي لقلة ذات يدي ، فأنا أهيب بأهل المال عموما ، والدعاة خصوصا أن لا يردوا سائلا ، ولا يخيبوا محتاجا ، فالمال مال الله وإنما نحن مستخلفون فيه كما قال تعالى ] وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [ فما أحلى صدور الكرم من المسلم عموما ومن الداعية على وجه الخصوص ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . السادس :- طلاقة الوجه ودوام البشر وكثرة التبسم في غير منقصة ، وهذا من الآداب الرفيعة ، قال عليه الصلاة والسلام " تبسمك في وجه أخيك صدقة "(1) وقال جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه : ما رآني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي . فالابتسامة وطلاقة الوجه هي السحر الحلال الذي يقلب الموازين إلى الخير والذي يشرح الصدور ويحبب العبد إلى الناس ويجعله عندهم مقبولا قريب الاستجابة ، وفي الحديث " لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلق أخاك بوجه طليق "(2) أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه بما يوجب لهم الانبساط وانشراح الصدر ، ولكنه لا يقول إلا الحق حتى في مزاحه ، بل الضحك من صفات الله تعالى الثابتة بالسنة ، وهي من صفاته الفعلية ، وفي حديث سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَه، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ وَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام يَضْحَكُ فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. وقد بوب البخاريُّ على هذه الأحاديث بقوله (بَاب التَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ) وَقَالَتْ فَاطِمَةُ: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكْتُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:إِنَّ اللَّهَ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. فالدَّاعِيَة كما يتصدق بالمال يتصدق بالابتسامة فهل تعجز - أخي - عن هذا. قال بعض العقلاء: التبسم والبشر من آثار أنوار القلب، وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة.قال ابن عيينة ( البشاشة مصيدة المودة والبر شيء هين وجه طليق وكلام لين ) والناس لا يقبلون من الدَّاعِيَة الذي يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم، و يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم. وقال حماد بن زيد: ما رأيت أحدا قط أشد تبسما في وجوه الرجال من أيوب إذا لقيهم.قال الذهبيُّ: ( وقال محمد بنُ النعمان: لم أر أعبدَ من يحيى بن حماد، وأظنه لم يضحك قلتُ: الضحكُ اليسيرُ والتبسمُ أفضلُ، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين: أحدهما: يكون فاضلا لمن تركه أدبا وخوفا من الله وحزنا على نفسه المسكينة. والثاني: مذموم لمن فعله حمقا وكبراً وتصنعا كما أنّ من أكثر الضحك استخف به، ولا ريب أنَّ الضحكَ في الشباب أخف منه وأعذر منه في الشيوخ. وأمَّا التبسمُ وطلاقة الوجه فأرفعُ من ذلك كله ، فأعلى المقامات من كان بكّاءً بالليل، بساما بالنهار، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه " لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه"(1) بقي هنا شيء وهو :- أنه ينبغي لمن كان ضحوكاً بساما أن يقصر من ذلك ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوسا منقبضا أن يتبسم ويحسن خلقه ويمقت نفسه على رداءة خلقه ، وكل انحراف عن الاعتدال فمذموم ولا بدَّ للنفس من مجاهدة وتأديب ) والوسطية في هذا مطلوبة ، فلا يكون الداعية ضحوكا بما هب ودب فتمجه النفوس وتزدريه القلوب ، ولا يكون عبوسا قمطرير الوجه مكفهر الخاطر دوما فلا ترتاح له النفوس ولا تقبله القلوب ، والله المستعان . السابع :- البعد عن تتبع العورات ومواطن التهم ، فلا يكون عينا على عيوب الناس ، ولا لسانا لاذعا في التخوض فيهم وفي أخطائهم ، فإن من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه الله في جوف بيته ، وقال عليه الصلاة والسلام " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " وقال عليه الصلاة والسلام " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تؤذوا المؤمنين ... الحديث "(2) لا سيما أخطاء العلماء والأمراء ، فلا بد من غض الطرف عن الهفوات والبعد عن تتبع الزلات ، فمن ذا يسلم من الخطأ ، وليكن تصحيح الأخطاء لذات الخطأ بغض النظر عن الأسماء ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، وقد ابتلينا في هذا الزمان بقوم جعلوا أخطاء العلماء بضاعة يروجون بها سمعتهم ويتعالون على أهل العلم بتتبع زلاتهم من كتبهم وأشرطتهم بحجة أنهم ينصحون ، ولا يدرون أنهم يهدمون ولا يبنون ويفرقون ولا يجمعون ، نعم ، إن عرف عن هذا العالم أنه لا يريد إلا بالباطل والمجادلة في الحق بعدما تبين فهذا له شأن آخر ، لا سيما إن خيف على المسلمين من خطره وشره ، والنقد لا بد من الإخلاص والعدل ، والله عليم بذات الصدور ، والله المستعان . الثامن :- الصبر ، وما أدراك ما الصبر ، فقد ثبتت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة في علو رتبته وتفخيم أمره ، وقد تكلمنا عنه سابقا في قاعدة ( بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ) والله أعلم . التاسع :- العفو والصفح والتجاوز ، وكظم الغيظ وخفض الجناح للمدعوين ، مع وفور الحلم بلا ضعف ولا مهانة ، قال تعالى ] إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [ وقال تعالى لخاتم رسله صلى الله عليه وسلم ] فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [ وقال تعالى في وصف الصالحين ] وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [ وقال تعالى ] وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ وقال تعالى ] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس لما وفد عليه مع قومه " إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة " وقال تعالى ] وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [ وقال تعالى ] فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [ ولقد كان العفو- وهو ترك المؤاخذة ، عند القدرة على الأخذ من المسيء - من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه في صور لا تكاد تحصر أنه عفا وغفر وصفح عن الزلل والخطأ ، ويتجسد عفوه حين تصدى له "غورث بن الحارث" ليفتك به صلى الله عليه وسلم والرسول مطّرح تحت شجرة وحده قائلاً(نائماً في وقت القيلولة) وأصحابه قائلون أيضاً، وذلك في غزوة، فلم ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا و غورث قائم على رأسه، والسيف مسلطاً في يده،وهو يقول: ما يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم " الله " فسقط السيف من يد غورث ، فأخذه النبي الكريم وقال" من يمنعك مني؟" قال غورث: كُن خير آخِذ . فتركه وعفا عنه ، فعاد إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس!" . ولما دخل المسجد الحرام صبيحة الفتح ووجد رجالات قريش - الذين طالما كذَّبوه ، و أهانوه ،وعذبوا أصحابه وشردوهم - جالسين مطأطئي الرؤوس ينتظرون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتح فيهم ، فإذا به يقول لهم " يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا: أخ كريم ، وابن أخ كريم قال " اذهبوا فأنتم الطلقاء " فعفا عنهم بعد أن ارتكبوا من الجرائم في حقه وحق أصحابه ما لا يُحصى عدده , ولما تآمر عليه المنافقون ليقتلوه وهو في طريق عودته من تبوك إلى المدينة ، وعلم بهم وقيل له فيهم ، عفا عنهم وقال " لا يُتحدَّث أن محمداً يقتل أصحابه " وعفا عن الأعرابي الذي بال في مسجده وعلمه وأدبه ، وعفا عن حاطب بن أبي بلتعة وقد أخبر قريشا بأمر المسير إليهم ، وعفا عن الأعرابي الذي جبذه من عمامته القطرية حتى أثرت فيه صلى الله عليه وسلم ، وصور العفو كثيرة ، وليس هو عفو الضعفاء والخورة ، بل عفو العظماء الذين يقدرون على العقاب ، وكما قيل ( العفو عند المقدرة ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما نَقَصَت صَدَقَة مِن مال وما زادَ اللّهُ عبدا بِعَفو إلاّ عِزّا ، وما تواضَعَ أحَد للّهِ إلا رَفَعَهُ " وقال تعالى ]وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[ وقال ] فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [ والأمر أكبر من هذه العجالة، ولكنها مجرد إشارات ،والله المستعان . العاشر :- التواضع ، قال تعالى ] وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [ وقال تعالى ] وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [ وقال تعالى ] وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [ وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن اللّهَ أوحى إليّ أن تواضَعوا حَتى لا يَفخَرَ أحَد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد "(1) وكلما تواضع العبد فإنه يزداد من الله تعالى قربا ، كما ثبت به النص ، إن التواضع من سيد الأخلاق والتكبر من سيئها . حكي عن الحسن البصري أنه ذكر قوله تعالى ] وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [ فقال ( المؤمنون قوم ذلل ، ذلت لله الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى ، والله ما بالقوم من مرض وإنهم لأصحاء القلوب ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة ) وقال بعض العلماء: من أعطي مالا أو جمالا أو ثيابا أو علما ثم لم يتواضع فيه كان عليه وبالا يوم القيامة . وقال موسى بن القاسم ( كانت عندنا زلزلة وريح حمراء فذهبت إلى محمد بن مقاتل ، فقلت يا أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز وجل لنا ، فبكى ثم قال ليتني لم أكن سبب هلاككم , قال فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال إن الله عز وجل رفع عنكم بدعاء محمد بن مقاتل ) وهذا دأب الصالحين لا يرون لعبادة أنفسهم وتقواها أية قيمة تجعلهم يعجبون بأنفسهم ولا يرون أن لهم فضلا على غيرهم . هذا في العبادة والتقوى فما بالك بالمال والجاه أو متاع الحياة الدنيا , إن التكبر أحد الأسباب الرئيسة للكفر. قال تعالى ] سأصرِفُ عَن آياتيَ الّذينَ يتَكَبَّرون في الأرضِ بِغيرِ الحَقّ [ ولم يكن سبب عناد فرعون هذه الأمة ، أبو جهل إلا تكبره فحينما سئل عن سبب عدم إسلامه مع معرفته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بكاذب قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذا؟ والله لا نسمع له أبدا ولا نصدقه. فالتكبر هذا بسبب الجاه والشرف وعزة القوم والعشيرة أو في حالات أخرى بسبب المال أو المنصب أو العلم أو الذكاء والمقدرة أو كثرة الأتباع ، إنما هو من تسويل الشيطان, إن العلاج الناجع للتكبر هو بمخالفة سببه عمليا ، فإذا وجد المرء داعيا للتكبر بسبب المال ، عليه أن يعالجه بمخالطة الفقراء والتواضع لهم ومنحهم الصدقات دون منّ أو شعور بأن له فضلا عليهم . وإن كان تكبره بسبب العلم والذكاء والعقل فعليه التواضع لمن يمكن أن يتعلم منه شيئا جديدا . ركب زيد بن ثابت فدنا منه ابن عباس ليأخذ بركاب فرسه ، فقال مهٍ! يا بن عم رسول الله فقال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا . فأخذ زيد بن ثابت يد ابن عباس فقبَّلها وقال هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقال عروة بن الزبير رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء ، فقلت يا أمير المؤمنين لا ينبغي هذا ، فقال لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت في نفسي نخوة فأحببت أن أكسرها ، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها . ورؤي أبو هريرة رضي الله عنه وهو أمير المدينة وعلى ظهره حزمة حطب وهو يقول طَرِّقوا (أي افسحوا الطريق) للأمير. وقال ابن عباس من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه.وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال أن تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قاله. وكان يقول قراء الرحمن أصحاب خشوع وتواضع وقراء الدنيا أصحاب عجب وتكبر. تشاجر أبو ذر وبلال رضي الله عنهما فقال أبو ذر لبلال يا ابن السوداء ، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له " أعيَّرتَهُ بأمهِ إنَّكَ امرؤ فيكَ جاهلية " فألقى أبو ذر نفسه على الأرض وحلف أن لا يرفع رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال ذلك .(1) والله المستعان . الحادي عشر :- الشجاعة ، في غير تهور ولا عنف ولا حمق ، لقد كان صلى الله عليه وسلم شجاع القلب والعقل معاً ، فشجاعة القلب هي عدم الخوف مما يُخاف منه عادةً ، والإقدام على دفع ما يُخاف منه بقوة وحزم ، أما شجاعة العقل فهي المضي فيما هو الرأي وعدم النظر إلى عاقبة الأمر ، متى ظهر أنه الحق , فكان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس على الإطلاق ،ومن أدلة ذلك أن الله تعالى كلفه بأن يقاتل وحده في قوله ] فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [ وقد شهد الشجعان الأبطال له بذلك فقد قال علي بن أبي طالب ، وكان فارسا مغواراً من أبطال الرجال وشجعانهم : كنا إذا حمي البأس (اشتدت المعركة) واحمرت الحُدُق (جمع حدقة وهي بياض العين) نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم أي نتقي الضرب والطعان . وهذا موقفه البطولي الخارق للعادة يوم أُحد حيث ذهل عن أنفسهم الشجعان ووقف محمد صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم حتى لاذ به أصحابه والتفوا حوله وقاتلوا حتى انجلت المعركة بعد قتال مرير وهزيمة نكراء حلت بالقوم من جراء مخالفتهم لكلامه صلى الله عليه وسلم ، وفي حُنين حين انهزم أصحابه وفر رجاله لصعوبة مواجهة العدو من جراء الكمائن التي نصبها وأوقعهم فيها، وهم لا يدرون , بقي وحده صلى الله عليه وسلم في الميدان يطاول ويصاول وهو على بغلته يقول " أنا النبي لا كذب , أنا ابن عبد المطلب " ومازال في المعركة يقول " إلىَّ عباد الله ! إليَّ عباد الله " حتى أفاء أصحابه إليه وعاودوا الكرة على العدو فهزموهم في ساعة . هذه بعض دلائل شجاعته القلبية ، أما شواهد شجاعته العقلية ، فنكتفي فيها بشاهد واحد ، فإنه يكفي عن ألف شاهد ويزيد ، وهو موقفه من تعنُّت سهيل بن عمرو وهو يملي وثيقة صلح الحديبية ، حين تنازل صلى الله عليه وسلم عن العبارة (بسم الله) إلى (باسمك اللهم) وعن عبارة (محمد رسول الله) إلى (محمد بن عبد الله) وقد استشاط أصحابه صلى الله عليه وسلم غيظا ، وبلغ بهم الغضب حداً لا مزيد عليه، وهو صابر ثابت حتى انتهت وكانت بعد أيام فتحاً مبينا؛ فضرب صلى الله عليه وسلم بذلك أروع مثل في الشجاعة وبعد النظر وأصالة وإصابة الرأي ، والله المستعان ، إن الخور والجبن ليس من طبع الرجال ، فضلا عن العلماء والدعاة ، فالمواقف تحتاج إلى قوة قلب ، وثبات في الرأي على بصيرة لا على عوج ، وكما قال تعالى ]إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[ وإن القلب والعين لتعشق الشجاعة عشقا لا مزيد عليه ، وأعني بها الشجاعة في الحق لا في الباطل ونحن في هذه الأزمنة نعاني من الضعف والخوف من أعداء الله تعالى ما هو معروف لكل أحد ، ولكن ولله الحمد لا تزال طائفة من الدعاة قوالة بالحق عاملة به آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر ، لا تخاف في الله لومة لائم ، والله المستعان . فهذه جمل من الأخلاق الكريمة العالية والتي ينبغي أن يحرص الداعية إلى الله تعالى على التحلي بها ، وبالجملة فكل خلق نبيل أمر به الإسلام أمر إيجاب أو استحباب فينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يأخذه بعين الاعتبار ، والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه . (1) حديث حسن , رواه أحمد، ومالك، والبخاري في الأدب المفرد ، والحاكم، والبيهقي في الشعب ، وعند بعضهم "لأتمم صالح الأخلاق" . (2) حديث صحيح لغيره , أخرجه الحاكم 1/60 , و الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (4427) ، والبيهقي في "الشعب" (7988) . (3) حديث صحيح , رواه مسلم رقم (771) في صلاة المسافرين ، باب الدعاء ، في صلاة الليل وقيامه ، والترمذي رقم (3417) وأبو داود رقم (760) في الصلاة . (4) أخرجه الترمذي رقم (3585) في الدعوات ، باب رقم (137) ، ورواه أيضاً الطبراني والحاكم ، وابن حبان في صحيحه رقم (2422) موارد ، وحسنه الترمذي ، وحسنه أيضاً الحافظ السخاوي . (5) رواه الترمذي رقم (2005) في البر ، باب ما جاء في حسن الخلق ، ورواه أيضاً ابن حبان في صحيحه ، وهو حديث صحيح بشواهده . (1) حديث صحيح , رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والنسائي. (2) حديث منقطع , أخرجه الموطأ 2 / 902 في حسن الخلق ، باب ما جاء في حسن الخلق ، بغير إسناد ، وهو أحد الأحاديث التي وردت في الموطأ بغير سند , قال الزرقاني في شرح الموطأ : كذا ليحيى وابن القاسم والقعنبي ، قال : ورواه ابن بكير عن مالك بن يحيى ابن سعيد عن معاذ ، وهو مع هذا منقطع جداً ، ولا يوجد مسنداً من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ ، لكن ورد معناه ، قاله ابن عبد البر . وقال الزرقاني أيضاً : ومن شواهد هذا الحديث ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن معاذ قال : قلت : يا رسول الله علمني ما ينفعني ؟ قال : " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " . (3) حديث صحيح , أخرجه الترمذي رقم (2003) في البر والصلة ، وأبو داود رقم (4799) في الأدب , وأحمد (6/442) . (4) حديث صحيح , أخرجه مسلم رقم (2553) في البر والصلة ، باب تفسير البر والإثم ، والترمذي رقم (2390) في الزهد ، باب ما جاء في البر والإثم . (5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (386) ، ومسلم (2607) (105) ، وأبو داود (4989) وأحمد (3638) . (6) أخرجه الترمذي رقم (1209) في البيوع , وللحديث شاهد عند ابن ماجة رقم (2139) في التجارات من حديث ابن عمر وفي سنده ضعف ، ولذا قال الترمذي عن حديث أبي سعيد : هذا حديث حسن . (1) أخرجه البخاري 14/116 - 117 في الرقاق , و مسلم رقم (143) في الإيمان , والترمذي رقم (2180) في الفتن و ابن ماجة رقم (4053) في الفتن . (1) صحيح , أخرجه البخاري 1/150 ، 151 في العلم , وأحمد (2/361) . (2) أخرجه البخاري في التاريخ (4/360) وأبو داود (3/290، رقم 3535) والترمذي (3/564، رقم 1264) وقال: حسن غريب، والحاكم (2/53، رقم 2296) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. والبيهقي (10/271، رقم 21092) . (3) البخاري 4/45 في الزكاة : ومسلم رقم (1023) في الزكاة ، وأبو داود رقم (1684) في الزكاة ، والنسائي 5/79 - 80 في الزكاة .
(1) حديث صحيح , رواه البخاري 13 / 347 في التوحيد ، ومسلم رقم (993) في الزكاة ، والترمذي رقم (3048) في التفسير . (2) حديث صحيح , رواه مسلم رقم (2588) في البر والصلة , والترمذي رقم (2030) كذلك في البر والصلة ، والموطأ 2 / 1000 في الصدقة . (3) إسناده حسن , أخرجه الترمذي في المناقب , و أحمد في " المسند " 3 / 63 . (1) أخرجه الترمذي رقم (1957) في البر والصلة , والبخاري في الأدب المفرد (891) وهو حديث حسن . (2) أخرجه مسلم رقم (2626) في البر والصلة , و أحمد (5/173) وهو حديث صحيح . (1) أخرجه البزار وأبو يعلى والطبراني في مكارم الأخلاق من حديث أبي هريرة . (2) أخرجه أبو داود رقم (4880) في الأدب ، باب في الغيبة ، ورواه أيضاً أحمد في " المسند " 4 / 412 ، وهو حديث صحيح .
(1) أخرجه مسلم رقم (2865) في الجنة , و أحمد (4/162) . (1) حديث صحيح , أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي وغيرهم . |