القاعدة الثالثة والأربعون :- كل طريق يفضي إلى وجود المنة لأهل الدنيا فالأسلم للداعية التحرر منه ما استطاع إلى ذلك سبيلا

القاعدة الثالثة والأربعون :- كل طريق يفضي إلى وجود المنة لأهل الدنيا فالأسلم للداعية التحرر منه ما استطاع إلى ذلك سبيلا .

أقول :- إن العزة لله تعالى ، ولمن أراد الله تعالى له العزة ، والعزة معنى سام رفيع ، وضدها الذلة والمهانة وقد قضى ربنا جل وعلا أن العزة لا تكون إلا في طاعته واتباع شريعته ، وأهل نصرته ، فالدعاة إلى الله تعالى داخلون في جملة أهل العزة ، فليحرص الداعية أن لا يسلك الطريق التي توجب له الذلة والمهانة وإن من تلك الطرق أن يفتح الداعية على نفسه باب المنة للمخلوقين من أهل الدنيا ، وهذا الأمر مكروه شرعا مبغوض لله تعالى ، فالكرامة والعزة من الصفات التي لا بد من المحافظة عليها ، وإن أهل الدنيا من أهل المناصب والمال والملك والجاه العريض يحاولون استمالة قلب الداعية بشيء من حطام الدنيا حتى يذلوه به ، وقد كان من مقاصد بعض الحكام في الأزمان السابقة إذلال العلماء والدعاة بما يجود عليهم من حطام الدنيا ، وأهل العلم لا يزالون يحاربون أبواب المنة عليهم للمخلوقين ، ويسدون كل طريق يوجب ذلك ، فإن المنة لأهل العلم على أهل الدنيا ، ولا تزال الأمور مستقيمة ما دام العالم عزيزا لا منة للمخلوقين عليه ، ولكن متى ما تنازل عن هذا المنصب الرفيع وصار يتتبع ما عند أهل الدنيا من الحطام الفاني فإن الأمور ستنقلب على عقبيها ، وعلى هذا سار سلف الأمة ، فقد كانوا يرفضون عطايا السلطان ويحذرون من الدخول عليه في الأعم الأغلب إلا فيما كانت مصلحته تعود لعموم المسلمين ، فلم يكونوا يطلبون لأنفسهم من أهل الدنيا شيئا ، حتى لا تكون لأحد منهم على العالم منة ، فإن جناب العالم لا يزال في منعة ما كان عزيز النفس مترفعا عن الدنيا وأهلها ، ومتى ما دخل حب الدنيا في قلبه فقد فسدت الأمور وتعطلت المصالح ، وفي الحديث " من تتبع الصيد غفل ومن وقف بأبواب السلطان افتتن " وقال تعالى ] وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [ وقال تعالى ] وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [ والإيمان قول وعمل ، ظاهر وباطن ، وقال تعالى ] مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [ أي من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره من الكلم الطيب والعمل الصالح ، وفي دعاء القنوت " إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت " ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه ، وله من العز بقدر طاعته ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه ، وعليه من الذل بحسب معصيته , فليست العزة الحقيقية في منصب يتولاه العالم ولا في مال يحصله ، ولا في حسب أو نسب ، أو غيرها مما هو من أمور الدنيا ، وإنما عزة العالم في القرب من الله تعالى بفعل الطاعات وجوبا واستحبابا ، وترك المنهيات تحريما أو كراهة ، وبالترفع عن الدنيا والدنايا من الأقوال والأفعال ، وقد ضرب السلف رحمهم الله تعالى أروع المثل في العزة ، قال الآجري رحمه الله تعالى في أخلاق العلماء (فإن الله عز وجل ، وتقدست أسماؤه ، اختص من خلقه من أحب ، فهداهم للإيمان ، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب ، فتفضل عليهم ، فعلمهم الكتاب والحكمة وفقههم في الدين ، وعلمهم التأويل وفضلهم على سائر المؤمنين ، وذلك في كل زمان وأوان رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم ، بهم يعرف الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، والضار من النافع والحسن من القبيح , فضلهم عظيم ، وخطرهم جزيل ، ورثة الأنبياء ، وقرة عين الأولياء ، الحيتان في البحار لهم تستغفر ، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع ، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع ، مجالسهم تفيد الحكمة ، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة ، هم أفضل من العباد ، وأعلى درجة من الزهاد ، حياتهم غنيمة ، وموتهم مصيبة ، يذكرون الغافل ، ويعلمون الجاهل ، لا يتوقع لهم بائقة ، ولا يخاف منهم غائلة  بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون ، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون ، جميع الخلق إلى علمهم محتاج والصحيح على من خالف بقولهم محجاج . الطاعة لهم من جميع الخلق واجبة ، والمعصية لهم محرمة ، من أطاعهم رشد ، ومن عصاهم عند ، ما ورد على إمام المسلمين من أمر اشتبه عليه ، حتى وقف فيه فبقول العلماء يعمل ، وعن رأيهم يصدر ، وما ورد على أمراء المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون ، وعن رأيهم يصدرون ، وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم ، فبقول العلماء يحكمون وعليه يعولون ، فهم سراج العباد ، ومنار البلاد ، وقوام الأمة ، وينابيع الحكمة ، هم غيظ الشيطان  بهم تحيا قلوب أهل الحق ، وتموت قلوب أهل الزيغ ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، إذا انطمست النجوم تحيروا ، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا ) فكيف يفرط العالم والداعية إلى الله تعالى في هذه الكرامة الكبيرة والمنزلة العالية الرفيعة بفتح أبواب المنة عليه لأهل الدنيا ؟ وقد كان السلف رحمهم الله تعالى على جانب كبير من الحذر من الولوج في أمر يوجب تسلط أهل الدنيا عليهم بالذل ، فعن فرات بن السائب عن ميمون بن مهران قال (ثلاث لا تبلون نفسك بهن لا تدخل على السلطان وإن قلت آمره بطاعة الله ولا تصغين بسمعك إلى هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه ولا تدخل على امرأة ولو قلت أعلمها كتاب الله) وقال عبدالغافر بن إسماعيل ( كان أبو إسماعيل الأنصاري على حظ تام من معرفة العربية والحديث والتواريخ والأنساب ، إماما كاملا في التفسير ، حسن السيرة في التصوف ، غير مشتغل بكسب ، مكتفيا بما يباسط به المريدين والأتباع من أهل مجلسه ، في العام مرة أو مرتين على رأس الملأ ، فيحصل على ألوف من الدنانير ، وأعداد من الثياب والحلي ، فيأخذها ويفرقها على اللحام والخباز ، وينفق منها ، ولا يأخذ من السلطان ولا من أركان الدولة شيئا ، وقل ما يراعيهم ، ولا يدخل عليهم ، ولا يبالي بهم ، فبقي عزيزا مقبولا ، قبولا أتم من الملك ، مطاع الأمر نحوا من ستين سنة ، من غير مزاحمة ، وكان إذا حضر المجلس لبس الثياب الفاخرة ، وركب الدواب الثمينة ، ويقول : إنما أفعل هذا إعزازا للدين ، ورغما لأعدائه ، حتى ينظروا إلى عزي وتجملي فيرغبوا في الإسلام ) وقد عز سلفنا الصالح رضوان الله عليهم عندما كان للعلماء فيهم مكانتهم فقد كانت الشعوب والعامة تسير في ركابهم، وتأتمر بأمرهم , وترى أن سلطانهم أعز من سلطان الملوك، وهذا عبدالله بن المبارك رحمه الله يدخل بغداد فينجفل الناس إليه وتقول امرأة لهارون الرشيد وقد رأت خروج بغداد كلها لاستقباله (هذا والله الملك لا ملك هارون) ولا نعني بهذا الكلام قلة الأدب على سلطان الله في الأرض ، لا ، وألف لا ، بل حق الحاكم الإكرام والتقدير والإجلال ، ولكن كلما كان الداعية والعالم أبعد عن قبول عطاياه كلما كانت كلمته أعز وجنابه أهيب ، وقد كان الإمام أحمد من أبعد الناس عن قبول عطايا السلطان ، وهو إمام أهل السنة والجماعة ، وهل قام سعيد بن جبير في وجهه الحجاج ناصحا ومذكرا وآمرا بالمعروف إلا لما سلم من منة أهل الدنيا ، فالحجاج هو الذليل وإن كان هو القاتل ، وسعيد بن جبير هو العزيز وإن كان هو المقتول ، وهكذا ينبغي أن يكون أصحاب الهمم العالية وهذا أمرٌ كثيف ويجعل المرء لا يقبل الذل ، جاء في ترجمة الخطيب البغدادي  رحمه الله أنه دخل عليه بعض العلوية ومعه دنانير فقال للخطيب : فلان يُسلم عليك ويقول اصرف هذا في بعض مهماتك "يعطيه شيئاً من المال" فقال لا حاجة لي فيه وقطّب وجهه ، فقال له الرجل : كأنك تستقله ونفض ما معه على سجادة الخطيب ؛ ليُريه أنه مالٌ كثير فقال هذه ثلاثمائة دينار فقام الخطيب رحمه الله محمّر الوجه وأخذ طريقه وخرج وسحب سجادته ، وظلّ الرجل يلتقط الدنانير ويجمعها من وراءه .قال أحد تلاميذ الخطيب - وهذا يبيّن لنا أثر الهمة العالية - قال : ما أنسى عز خروج الخطيب وذل ذاك العلوي الذي يجلس في الأرض يلتقط الدنانير وذاك قد مضى لحاله ، وهذا سعيد الحلبي وهو من كبار أشياخ الشام وعلمائها والمقدمين فيها ، كان في الدرس يجلس ماداً رجله لكبر سنه ودخل عليه جبار الشام إذ ذاك إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا وهذا عهدٌ قريب منا ليس ببعيد فظلّ في درسه ولم يلتفت إليه ورجله ممدودة نحوه فامتعض هذا الرجل ، وكتم أمره ، ولما خرج بعث إليه بصرة من المال فيها ذهب فردّها الشيخ وقال للرسول ( قل للباشا إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه ) وهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لما كان نزيها عن أغراض الدنيا ومطامعها ،مترفعا عن شهواتها وحطامها ، ولا يرغب عند أهلها في أمر من أمورها ، كان بسبب ذلك قوي النفس قوي الكلمة مهابا عند الكبار والصغار ، لا يخاف في الله لومة لائم ، قوالا بالحق ، لا يخاف من دنيا ستزول ، ولا من منصب سيفصل منه ، ولا من غضب أحد من أهل الدنيا له عليه فيها منة ، فكان يقف عند الملوك والأمراء آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر كأنه واقف أمام أحد التلاميذ الصغار ، قال صاحب المناقب العلية في مناقب ابن تيمية (ولما ظهر السلطان غازان على دمشق المحروسة جاءه ملك الكرج وبذل له أموالا كثيرة جزيلة على أن يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق ووصل الخبر إلى الشيخ - أي ابن تيمية -  فقام من فوره وشجع المسلمين ورغبهم في الشهادة ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف، فانتدب منهم رجال من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان فلما رآهم السلطان قال :- من هؤلاء ؟ فقيل :- هم رؤساء دمشق، فأذن لهم فحضروا بين يديه. فتقدم الشيخ رضي الله عنه أولا فلما أن رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة حتى أدناه وأجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام معه أولا في عكس رأيه عن تسليط المخزول ملك الكرج على المسلمين وضمن له أموالا واخبره بحرمة دماء المسلمين وذكره ووعظه فأجابه إلى ذلك طائعا وحقنت بسببه دماء المسلمين وحميت ذراريهم وصين حريمهم, وحدثني من أثق به عن الشيخ وجيه الدين ابن المنجا قدس الله روحه قال كنت حاضرا مع الشيخ حينئذ فجعل ــ يعني شيخ الإسلام ــ يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ويرفع صوته على السلطان في أثناء حديثه حتى جثا على ركبتيه وجعل يقرب منه في أثناء حديثه حتى لقد قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان ، والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته مصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه ، وأن السلطان من شدة ما أوقع الله في قلبه من المحبة والهيبة سأل من يخصه من أهل حضرته من هذا الشيخ ؟ وقال ما معناه:  إني لم أر مثله ولا أثبت قلبا منه ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقيادا مني لأحد منه ، فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل، فقال الشيخ للترجمان :- قل لغازان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاضي وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا ، فغزوتنا  وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا ، وأنت عاهدت فغدرت ، وقلت فما وفيت وجرت.فقال له غازان : إن أحببت أن أعمر لك بلد آبائك حران وتنتقل إليه ويكون برسمك فقال ابن تيمية : لا والله لا أرغب عن مهاجر إبراهيم استبدل به غيره. فخرج من بين يديه مكرما معززا قد صنع له الله بما طوى عليه نيته الصالحة من بذله نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه ما أراده وكان ذلك أيضا سببا لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم وردهم على أهلهم وحفظ حريمهم وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوة الجأش , وكان يقول: لا يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه فان رجلاً شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال : لو صححت لم تخف أحدا، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك ) ا.هــ .كلامه رحمه الله تعالى . فتلك هي العزة وربك ، والتي لا بد وأن يتربى عليها أهل العلم والدعوة ، نعم ، فإنها إن فقدت فناهيك عن تسلط أهل الدنيا على أهل العلم ، فجناب العالم في القلوب كبير ، ولكنه يصغر كلما أذل العالم نفسه بالرغبة في دنيا أهل الدنيا فاحذر أن يتمندل بك الكبراء، أو يمتطيك السفهاء، فتلاين في فتوى، أو قضاء، أو بحث، أو خطاب ولا تسع بعلمك إلى أهل الدنيا ولا تقف به على أعتابهم ولا تبذله إلى غير أهله وإن عظم قدره.ومتع بصرك وبصيرتك بقراءة التراجم والسير لأئمة مضوا، ترى فيها بذل النفس في سبيل هذه الحماية، لا سيما من جمع مثلا في هذا، مثل كتاب (من أخلاق العلماء) لمحمد سليمان رحمه الله تعالى ، وكتاب (الإسلام بين العلماء والحكام) لعبد العزيز البدري رحمه الله تعالى، وكتاب (مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) لفاروق السامرائي ، واعلم أن تلك العزة لا ينالها من رغب في حطام الدنيا وذل عند أهلها رجاء ما عندهم من حطامها ، نسأل الله تعالى أن يجنبنا أسباب الذل والمهانة في الدنيا والآخرة، وبسبب ذلك صار الكثير من أهل العلم يسكت عن الأخطاء والمنكرات والمخالفات الظاهرة خوفا على هذه الدنيا المؤثرة عنده على كل شيء ، فاحذر من هذا المسلك ، فإنه مسلك من لا يرجون لله وقارا، الذين جعلوا الأساس هو حفظ المنصب ، فيطوون ألسنتهم عن قول الحق، ويحملهم حب الولاية على المجاراة ، وهذا أمر لا ينبغي لأهل العلم والفضل والإيمان والدعوة ، فكم من الفساد الكبير العريض الذي سيدخل على الدعوة والعلم إن أذله أهله عند أبواب الولاة ، فلنتق الله تعالى معاشر الدعاة وطلبة العلم في أمانة العلم والمحافظة على هيبته وقدره وقيمته العالية الغالية الكبيرة ، ولا نبتذله في المواضع التي تنقصه وتذهب رونقه ، وإن الأمر لكبير والحمالة لا طاقة لنا بها إلا بتوفيق من الله تعالى وحسن فضل وكمال تسديد ، والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .

 

جميع الحقوق محفوظة الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ وليد بن راشد السعيدان