القاعدة الثامنة والأربعون :- سلامة المقاصد لا تسوغ الوقوع في المخالفات .

القاعدة الثامنة والأربعون :- سلامة المقاصد لا تسوغ الوقوع في المخالفات .

أقول :- إن المتقرر في القواعد أن المقاصد لا تبرر الوسائل إلا بدليل ، أي أن المقصد إن كان حسنا فليست سلامته مسوغة للداعية أن يتوصل له بكل طريق ولو كان الطريق مخالفا للشرع ، بل لا بد مع سلامة المقاصد أن تكون الوسيلة التي يتوصل بها للمقصد سليمة أيضا ، وأنت خبير بأن الوسائل الدعوية لا بد وأن تكون سليمة لا تتعارض مع شيء من أدلة الشرع ، وليس كون الداعية يريد هداية الناس بمسوغ له أن يسلك الطرق المعوجة المحرمة حتى يصل إلى هذا المقصد ، فالمقاصد إن كانت طيبة فلا بد وأن يسلك في تحقيقها الوسائل الطيبة ، ومجرد حسن النية وسلامة الغاية شيء ، وسلامة الوسيلة شيء آخر ، فلا بد من سلامة الأمرين جميعا ، فالوسيلة إن كانت مشروعة وأريد بها التوصل إلى أمر ممنوع ، فهذا حرام لا يجوز ، والمقصد إن كان حسنا مشروعا ، وكانت الوسيلة التي توصلنا له محرمة ممنوعة فهو لا يجوز أيضا ، فلا بد من المشروعية والسلامة في المقاصد والوسائل جميعا ، فسلامة المقاصد والنوايا لا تغني عن سلامة الوسائل ، وسلامة الوسائل لا تغني عن سلامة المقاصد ، وأنا أضرب لك بعض الأمثلة المعاصرة على هذه القاعدة حتى يتبن لك مدى بعد بعض الدعاة هداهم الله تعالى عن المنهج الصحيح ، فأقول :-

منها :- إن من الدعاة من يرى أن من المقاصد الدعوية تحسين سمعة الإسلام أمام العالم ، وحمايته من الأوصاف المذمومة ، كوصفه بالرجعية والتأخر وأنه غير صالح مع تطور هذا العصر ، فهذا مقصد ولا شك طيب ، ولكن بعض الدعاة إلى الله تعالى يريد تحقيق هذا المقصد بفتح باب الحوار مع الطرف الآخر في مسلمات الشريعة والأمور المفصولة بالدليل ، وبعضهم يفتي بجواز خروج المرأة في وسائل الإعلام ، وبعضهم يجيز للمرأة أن تتولى الإمامة في الصلاة للرجال ، وبعضهم يفتي بجواز قيادتها للسيارة وبعضهم يفتي بجواز الاختلاط بين الرجال والنساء ، وبعضهم يفتي بجواز الدخول على النصارى في كنائسهم ، وبعضهم يفتي بحرية الأديان ،  وبعضهم يفتي بعدم الإنكار على أهل البدع بحجة أن لهم دينهم ولنا ديننا ، وأنه لا إكراه في الدين ، وبعضهم يفتي بوجوب التعايش مع الطرف الآخر بدون التعرض للنقاش في ذكر الفروق العقدية التي توجب الفرقة ، وبعضهم يفتي بجواز كشف وجه المرأة ، إلى غير هذه الفتاوى التي ظهرت قرونها في هذا الزمان ، وكل ذلك بحجة حماية الإسلام من وصفه بالرجعية والإرهاب والقسوة ، وكل هذه الوسائل المتخذة في تحقيق هذا المقصود لا تجوز ، لأنها مبنية على خلاف الدليل الصحيح الصريح ، فلا يسوغ لأحد من الدعاة أو أحد من المسلمين عموما أن يتنازل عن شيء من شرائع دينه وقضايا أمته هروبا من تلك الأوصاف المذمومة ، فإن المقصود وإن كان حسنا إلا أن الوسائل التي يراد بها التوصل إلى هذا المقصود وسائل ممنوعة ، فلا يجوز سلوكها ، لأن المتقرر أن سلامة المقاصد لا تسوغ الوقوع في المخالفات ، والله أعلم .

ومنها :- لا جرم أن طاعة ولي الأمر من الأمور العقدية التي كثرت أدلتها في الكتاب والسنة ، وقد أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على وجوب طاعتهم في غير معصية الله تعالى ، وأجمعوا على حرمة الخروج عليهم إلا إن نرى كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان ، وغلب على الظن النصر بدون سفك دماء ، فطاعة ولاة الأمر من الأمور المفصولة بالنصوص المتواترة التي لا تدع مجالا للنقاش والحوار، فبعض الدعاة وفقهم الله تعالى يريدون أن يحققوا هذا المقصود في قلوب الناس فربما أفتوا بجواز تعليق صور الولاة في الأماكن العامة ، أو صناعة بعض التماثيل لهم وتوضع في الميادين العامة ، أو السكوت عن مخالفات ولي الأمر فلا يناصحونه البتة لا سرا ولا علنا ، مع أن مناصحته في العلن لا تنبغي ، ولكن لا بد منها في السر ، فإن الدين النصيحة ، أو يحسنون له ما يقع فيه من المخالفات ، بحجة عدم إثارة الفتنة النائمة ، أو يخرجون صورته أمام العامة بأنه المعصوم الذي لا يتصور منه صدور الخطأ والزلة والغفلة ، أو يمدحونه المدح بالأوصاف التي لا تنبغي أن تقال في حق المخلوق ، ونحو تلك الأمور التي لا ينبغي صدورها من المسلم ، وتلك الوسائل كلها لا تجوز ، ولا تنبغي ، حتى وإن قصد بها أصحابها تحقيق مقاصد شرعية مأمور بها ، إلا أن المتقرر أن سلامة الوسائل لا تسوغ الوقوع في المخالفات ، ولا يفهم من كلامي هذا أنني أهون من طاعة ولي الأمر ، أو أن في ولائي لولي الأمر وللوطن قدح ، لا، وإنما أريد أن أبين أن الطاعة قد وجبت بالأدلة ، وأن تعليم الناس وتثقيفهم في هذا الباب كفيل إن شاء الله تعالى بتحقيق هذا المقصود ، ولا داعي أن نتوصل له ببعض الأفعال المنكرة التي لا تجوز في شريعتنا ، والله من وراء القصد .

ومنها :- إن نصح الناس وتوجيههم وترغيبهم في الخير وتحذيرهم من الشر لا جرم أنه أمر مطلوب ، بل هو لب الدعوة ، ولكن مع سلامة هذا المقصد ، فإنه لا يجوز لأحد من الدعاة أن يتوصل له بالكذب في القصص واختراع الفكاهات السامجة التافهة التي لا حقيقة لها ، ولا بتلفيق الحكايات الموضوعة ولا بادعاء المنامات التي لا خطام لها ولا زمام ، ذلك لأن الكذب محرم في الشرع ، وإنما يجوز التعريض في صور معينة ، وأما أن يجعل منهجا في الدعوة ، حتى تكون المحاضرة أو الكلمة كلها تحكي قصة لو أن أحدا من السامعين أراد التثبت منها لما وجد لها حقيقة ، فهذا أمر لا يجوز ، وكم من الحكايات والقصص التي بان للناس بعد تتبع مصادرها أنها كذب وتخرص واختراع أريد به ترغيب الناس أو تحذيرهم وتخويفهم ، فالمقصد وإن كان سليما في الدعوة إلا أنه لا يحل لنا أن نتوصل لتحقيقه بالكذب والبهتان بل لا بد من سلوك الطريق المشروعة الواردة ، مع أن الدعوة بالقصة لها دورها الكبير في إقبال القلوب ولكن لا يعني هذا أن نخترع القصص ونلفق الحكايات التي لا خطام لها ولا زمام لتحقيق مقصود هداية الناس وإقبال القلوب على دعوتنا ، لأن المتقرر أن المقاصد الحسنة السليمة لا تسوغ الوقوع في المخالفات . والله أعلم .

ومنها :- إنه قد انتشر في الآونة الأخيرة ما يسمى بالأناشيد الإسلامية ، والأمر فيها قد تجاوز حده إلى إدخال بعض الآلات الموسيقية فيها ، وهذا بحجة أنها تجذب الشباب وتستقطب قلوب الناشئة وتغنيهم عن سماع الغناء ، وهذا أمر في الحقيقة قد تجاوز حد الجواز ، فإننا وإن كنا لا نرى أن لها أصلا مشروعا وإنما هي من مخلفات الصوفية ، ولكن مع القول بأنها جائزة فإن الذين أفتوا بجوازها قد شرطوا لها شروطا من هذه الشروط أن لا تؤدى بصوت فاتن ، ولا أن يصحبها شيء من الموسيقى ، وأين هذا مما هو حاصل هذا الزمان ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، فهذه الأناشيد لا ينبغي جعلها منهجا من مناهج الدعوة إلى الله تعالى لأنها بهذه الصورة الحادثة ممنوعة ، إن لم نمنعها من أصلها ، والترغيب في عمل الخير بسماعها وإنتاجها على هذه الصورة لا يجوز ، حتى وإن قصد به الخير ، فإن المتقرر أن سلامة المقاصد لا تسوغ الوقوع في المخالفات ، والله أعلم .

ومنها :- لقد عجبت لبعض الدعاة في فتوى قرأتها عنه بجواز أخذ الفوائد الربوية من البنوك ، بحجة أنها لو تركت في البنك لما ازداد البنك بها إلا تعاملا بالربا ، فتؤخذ وتدفع للفقراء والمساكين ، فإن الفقراء والمساكين أحوج إلى هذه النقود من البنك ، وهذا المقصود - وهو الصدقة على الفقراء والمساكين - مقصد حسن طيب مأمور به ، ولكن تحقيقه بهذه الوسيلة أمر ممنوع ، لأن أخذ الفوائد الربوية والتعامل بالربا والتعامل مع البنوك الربوية أصلاً لا يجوز ، أي أنه يذهب إلى هذا البنك ويتعامل معه قصداً وهو عالم بأنه يأخذ هذه الفوائد ، بحجة أنه سيصرفها على الفقراء والمساكين فهذا أمر لا جرم أنه حرام ولكن من تعامل مع بنك ربوي بدون علمه أنه من البنوك الربوية ، أو كان لا يجد في بلده إلا هذا البنك الربوي ، فالفوائد قد يقال فيه في هذه الحالة الخاصة أنه يأخذها ويتحلل منها ، أي أنه يصرفها لا بنية الصدقة وإنما بنية تحليل ماله ، أي بنية أن يتخلص منها ، وما ذلك إلا لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، والفوائد الربوية خبيثة ولا توصف بالطيب ، وما كان خبيثا فحقه أن يتخلص منه ، لا أن يجعل قربة يتقرب بها لله تعالى ، والمهم أن من يتعامل مع البنوك الربوية وهو عالم بأنها تعطي الفوائد الربوية ويأخذ تلك الفوائد الربوية بحجة أنه سيعطيها الفقراء والمساكين فحرام عليه أخذ هذه الفوائد وأما كونه يقصد بأخذها أن يعطيها الفقراء والمساكين فهو وإن كان مقصدا حسنا إلا أنه لا يسوغ أخذ هذه الفوائد ، لأن المتقرر أن المقاصد الحسنة لا يسوغ الوقوع في المخالفات ، فلتكن هذه القاعدة منك على ذكر، والله أعلم .

ومنها :- لا يجوز للعبد أن يسهر الليل سهرا يفوت عليه صلاة الفجر ، ولو كان في التعليم والتأليف والصلاة وقراءة القرآن ، فهذه المقاصد لا جرم أنها من أكبر التعبدات ، ولكن لا يجوز التوصل لها بالسهر المفضي إلى تفويت الصلاة ، ولا حجة لأحد أن يحتج بكونه في مقاصد مشروعة ، لأن المتقرر أن سلامة المقاصد لا تسوغ الوقوع في المخالفات ، والله أعلم .

ومنها :- يستطيع الداعية إلى الله تعالى أن يجيب بهذه القاعدة جميع أهل البدع ، بمعنى أن عامة أهل البدع العملية في الأعم الأغلب إنما يقعون فيها لمحبة الخير ، كالأذكار الجماعية والأوراد الصوفية والاحتفالات بالموالد وغيرها من البدع ، فإنما الحامل لهم على ذلك النية في التعبد ، ولكنهم أرادوا التوصل إلى تحقيق هذا المقصود بتلك الطرق المحدثة والوسائل البدعية المستنكرة ، فيقول لهم الداعية : إننا وإن سلمنا أن مقاصدكم بهذه الأفعال حسنة ، إلا أن المتقرر أن سلامة النيات والمقاصد لا تسوغ الوقوع في المخالفات ، فليس أحد يعمل في دينه ما يشتهي ، بل لا بد وأن يكون طريق التعبد موقوفا على دليل الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، والله أعلم .

ومنها :- إن بعض الجماعات التي تنتسب للدين تريد أن ترغب المدعوين من أتباعها الجدد في الخير وترغبهم في البقاء معها ، فربما تسمح لهم بالوقوع في بعض المخالفات كشرب الدخان أو التخلف عن الصلوات أو الدخول في البارات ، أو حضور الموالد البدعية وغيرها ، بحجة أنهم لا يريدون تنفيرهم من الاستقامة ومحبة الصالحين ، وهذا تناقض عجيب وسفسطة لا يتفوه بها عالم ، ولكن المتشبهون بالعلماء والدعاة كثير في هذا الزمان ، وهذا أمر لا يحل لهم أن يفعلوه ، فلا يحل لأحد أن يرخص في الممنوع شرعا بحجة الترغيب في الخير ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في شيء من ذلك ، ولما جاءه الشاب يريد أن يرخص له في الزنا ما رضي عليه الصلاة والسلام بحجة ترغيبه في الدين ، بل أقنعه بالأسلوب الجميل العقلي حتى خرج الشاب وهو مقتنع الاقتناع الكامل بأن هذا الأمر حرام ، فالتنازل عن الأمر المشروع من أجل ترغيب أحد في الدين لا يحل ، لأن الوسيلة لا بد وأن تكون من الأمور الجائزة التي تحل في الدين ، وسلامة المقصد لا تسوغ الوقوع في المخالفات ، والله أعلم .

والمهم أن الداعية عليه أن ينظر في الوسيلة التي يريد من خلالها تحقيق مقاصد الدعوة ، فإن كانت وسيلة لا تتنافى مع شيء من الأدلة فلا حرج عليه في اتخاذها ، وأما إن كانت يلزم منها تفويت المأمور أو الوقوع في الأمر المحظور فلا تجوز ، ولا حجة لأحد على الدين بكون مقصوده الصلاح والإصلاح وترغيب الناس في الخير ، لأن سلامة المقاصد لا تسوغ الوقوع في المخالفات ، فما أجمل هذه القاعدة وما أعظمها ، فلا بد من مراعاتها والاهتمام بها وقياس الوسائل الدعوية عليها ، والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . 

جميع الحقوق محفوظة الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ وليد بن راشد السعيدان