القاعدة الثانية والخمسون :- ضرب الأمثال وتقريب العلم من أصول الدعوة إلى الله تعالى . |
القاعدة الثانية والخمسون :- ضرب الأمثال وتقريب العلم من أصول الدعوة إلى الله تعالى . أقول :- إن دعوتنا لا بد وأن تكون منبثقة من منهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في تقرير المسائل ، سواء منها المسائل العقدية أو العملية أو الوعظ والترغيب والترهيب ، فالوحيان الكريمان المطهران قد ذكر فيهما جميع المناهج الدعوية التي لها وقع في القلوب ولها الأثر الكبير في هداية الناس ومن هذه المناهج الدعوية في تقرير العلم منهج ضرب الأمثال ، وهو كثير في الكتاب والسنة ، وقد نبه القرآن الكريم على أهمية هذا المنهج في أكثر من موضع ، فقال تعالى ] وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [ وقال تعالى ] وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ وقال تعالى ] وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [ وهذه الأمثال العظيمة يراد بها تقريب المعلومة المراد تقرير للناس ، فإن من الناس ، بل كثير من الناس لا يفهم الكلام درجا من غير ضرب مثال ولكن متى ما قرن الكلام بضرب المثال ترى على وجه السامع للمثال من علامات الفهم والقبول ما هو ظاهر لا يكاد يخفى ، وهذا من كمال التفهيم ومن كمال إقامة الحجة على المعاندين ، ومن كمال النصح والدعوة ، لاسيما إن كان المثال في الأمور الكبيرة التي هي من عظام المسائل ، وعليه : فينبغي أن يكون ضرب المثال من الأصول الدعوية التي لا بد وأن ينتبه لها الداعية ، وأن يرتب لها الترتيب الطيب ، وأن تكون قريبة من أمثلة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، فإن أمثلة الوحيين كلها حق وصدق في منطوقها ومضمونها ولوازمها ، فضرب المثال له دوره الكبير المهم في تقريب العلم وبيان المراد واتضاح السبيل ، وله دوره الكبير في إقبال القلوب واستماع الآذان ، وإصغاء العقول ، وضرب المثال يأسر القلوب الغافلة ويقودها للفهم عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وله دوره الكبير في التعقل والتدبر والانقياد والامتثال ، وضرب المثال له دوره الكبير في أخذ العبرة والعظة والترغيب والترهيب ، وضرب المثال له دوره الكبير في اختصار الكلام وعدم تشقيقه لأن السامع سيفهم ما تريد بأقل كلفة وأقصر وقت وأبسط كلام ، وضرب المثال له دوره الكبير في ترسيخ المعلومة في الذهن وثباتها في القلب فلا تكاد تلك المعلومة تنسى أبدا ، وله دوره الكبير في وصل الأمور ببعضها ومقايستها وإلحاق النظير بنظيره ، وحتى لا يكون كلامنا هكذا درجا من غير ضرب مثال ، نرى أنه من المناسب جدا أن نبين لك بعض الأمثلة المضروبة في القرآن حتى بتين لك كيف أثرها على القلوب والأرواح لاسيما إن فهمت الفهم الكامل ، فنقول وبالله تعالى التوفيق ، ومنه نستمد العون والفضل :- المثال الأول :- قوله تعالى ] ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ وهذا مثل ضربه الله تعالى مدللا على بطلان الشرك ، وبيانه أن يقال : أنتم يا كفار قريش لكم عبيد وأرقاء وعبيدكم هؤلاء أنتم تملكونهم ، فهم من جملة الأمور التي تدخل تحت تصرفكم وقهركم وسلطانكم ولكن ما رأيكم لو أن عبدا من عبيدكم جاء إلى سيده يريد أن يشاطره ويناصفه ملكه ، وما هو من خصائصه ، فهل سيكون هذا الأمر مقبولا عقلا وفطرة عندكم ؟ بالطبع الجواب : لا ، فإن العبد يبقى عبدا والسيد يبقى سيدا ، فكيف يريد عبدي أن يشاركني ما هو من ملكي وما هو من خصوصياتي يأتيك العبد ويقول : أنا أريد نصف منزلك ، ونصف رصيدك في البنك ، ونصف مزرعتك ، وهو عبد لك ، فهل أحد يرضى أن يشاركه أحد من عبيده فيما هو من ملكه وخصائصه ؟ الجواب: لا, سبحان الله ، لا ترضون هذا الأمر لأنفسكم وترضونه لربكم ، فإن هؤلاء المعبودات التي عبدتموها من دوني هي ملكي وتحت قهري وتصرفي وداخلة في سلطاني فأنا ربها ومالكها وسيدها والمتصرف فيها ، فكيف تصرفون لها ما هو من خالص حقي وهو أن تعبدوها من دوني ، والعبادة حقي الخالص المحض الصرف الذي لا يشاركني فيه أحد ، كيف تجعلون عبدي مشاركا لي فيما هو من خصائصي ، وهو عبدي وتحت ملكي وتصرفي وقهري وسلطاني ، كيف تخافونه كما تخافون مني ، وهو عبدي ، وأنا ربه ، كيف تعبدونه معي ، وهو عبدي وأنا ربه ، فكما أنكم لا ترضون أن يشارككم عبيدكم فيما هو من خصائصكم ، وتأبون هذا كل الإباء فكذلك أنا لا أرضى بأن يشاركني أحد من مخلوقاتي في شيء من خصائصي ، فشيء لا ترضونه لأنفسكم فكيف ترضونه لربكم ؟ تالله إنه لمثال ظاهر واضح على بطلان الشرك وأنه أعظم الظلم وأفرى الفرى ، وأكبر البهتان ، نعوذ بالله تعالى منه ، ونسأله تعالى أن يحيينا على التوحيد وأن يميتنا على التوحيد ، فانظر كيف انشدت القلوب والأسماع والعقول لهذا المثال العظيم الكبير ، وفهمت به حقيقة الشرك ، وهو أنه صرف ما هو من خالص حق الله تعالى لغير الله تعالى وهو أعظم الظلم وأكبر البهتان على الإطلاق ، وهكذا منهج ضرب الأمثلة في توضيحه وبيانه للأمور بكل جلاء ، فلا يدع للجاهل حجة في عدم الفهم ، والله أعلم . المثال الثاني :- قوله تعالى ] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [ وهذا مثل ضربه الله تعالى لبيان عدم انتفاع المشركين بهذه المعبودات ، وأن هذه المعبودات ستكون لهم عدوة يوم القيامة ، وبيانه أن يقال : هذا المثل له مأخذان :- المأخذ الأول :- وهو أن العنكبوت تبني بيتا من خيوطها ، وهي تريد من هذا البيت أن يحميها من حر الصيف وبرد الشتاء ، ويحميها من أعدائها المتربصين بها ، وهو في الحقيقة من خيوط تافهة ساذجة لا تحقق لها مقصودها الذي تريد منه ، فإنه إن جاء سموم الصيف أصابها ، وإن جاء زمهرير الشتاء أصابها وإن أرادها العدو بأمر ما منعها بيتها من رويته لها ، ففي الحقيقة أن عملها وتعبها في بناء هذا البيت واتخاذه ما حقق لها ما تريده منه ، وهكذا المشركون ، فإنهم إنما اتخذوا آلهة مع الله تعالى لتحميهم من العدو وتنصرهم على من أرادهم بالسوء وتحقق لهم ما يريدون من متع هذه الحياة ويريدون منها أن تكون لهم شافعة عند الله تعالى يوم القيامة ، وهم بهذا الأمر الذي أفنوا فيه حياتهم وأتعبوا فيه أنفسهم لا يتحقق لهم ما يريدون من هذه الآلهة ، بل هي لا تزيدهم إلا وهنا على وهنهم وضعفا على ضعفهم وبؤسا على بؤسهم ، ويوم القيامة ستتبرأ منهم كما سيأتي ، المهم أن مرادهم من اتخاذهم لهذه الآلهة لن يتحقق أبدا ، فهم في الحقيقة كهذه العنكبوتة التي تبني بيتا لا يتحقق به ما تريده منه الحماية والحفظ فهل بعد ذلك يشك العاقل في بطلان الشرك ، وأن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر ولا تحقق لعابدها من الأمور شيئا ؟ تالله إنه لمثل واضح الوضوح الكامل لأصحاب العقول ، ولكن أكثر الناس لا يفقهون ولا عن الله تعالى يعقلون . المأخذ الثاني :- وهو أنك لا تجد في الأعم الأغلب في بيت عنكبوتتان ، بل لا تجد في البيت الكبير من بيوت العنكبوت إلا عنكبوتة واحدة ، فهل سألت نفسك يوم ، لم هذا ؟ وذلك لأن الله تعالى قد فرض بقدره العداوة بين أفراد العنكبوت ، فالذكر إذا لقح الأنثى التفتت عليه وقتلته أو هو يقتلها إن كان أقوى منها ، والبيض إن فقس فالأم تأكله إلا ما يتساقط منه ، هكذا حياة العنكبوت ، وهكذا الحال فيمن اتخذ آلهة مع الله تعالى ، فإن هذه الآلهة ستتبرأ منه يوم القيامة ويلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم ببعض ، فكيف يعبد العاقل ما سيكون له عدوا يوم القيامة ، كيف يرجو النفع في شيء سيكون ألد عدو له يوم القيامة ، تالله إنها العقول المريضة التافهة السخيفة البعيدة عن الحق والهدى وقد بين الله تعالى هذا الأمر بقوله ] وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [ فكما هو الحال في أفراد بيت العنكبوت من العداوة، فكذلك الحال فيمن اتخذ آلهة مع الله تعالى ، وكما قال تعالى ] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ فانظر كيف فضح هذا المثال حقيقة الشرك فهذه الآية تنسف الشرك بعروقه ، لأن المشرك لا يعبد مع الله تعالى شيئا إلا وهو يريد من هذا المعبود أن يجلب له خيرا أو يدفع عنه شرا ، والحال أنه لا يحقق له ذلك ، وعلاوة على عدم تحقيق ذلك في الدنيا ، فهو يوم القيامة سيكفر بعابده ويكون له عدوا ، فالمشرك أخسر الناس صفقة ، إذ خسرت صفقته مع من يعبده في الدنيا ، وخسرت صفقته في الآخرة بأن تبرأ منه هذا المعبود من دون الله تعالى وكان له عدوا يلعنه ويكفر بعبادته ، فأين هذا من الموحد الذي أفرد الله تعالى بالعبادة ولم يشرك به شيئا والله تعالى هو النافع على الحقيقة ، والضار على الحقيقة ، وهو الذي يجلب الخيرات ويدفع المكروهات وهو الملجأ الآمن والملاذ العظيم يوم القيامة ، فالله الله بالتوحيد أيها الناس ، والله أعلم . المثال الثالث :- ضرب الله تعالى مثلا للاضطراب النفسي والوجداني والتيه الذي يعيشه المشرك، ومثلا للموحد في اطمئنان نفسه وراحة روحه ، فقال تعالى ] وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [ فالمشرك الذي يعبد مع الله تعالى آلهة أخرى هو في الحقيقة مثله مثل عبد قد اشتراه أكثر من سيد ، مثلا :- زيد من الناس عبد ، وقيمته عشرة آلاف ريال ، واشترك في شرائه عشرة رجال، كل واحد منهم دفع ألفا ، فكم له من سيد الآن ؟ عشر أسياد ، فما بالك بحال هذا العبد في تشتت فكره والتيه الذي سيعيش فيه لو أمره السيد بكذا وأمره السيد الثاني بأمر يخالف أمر السيد الأول ، والثالث بأمر يخالف أمر الأوليين هذا يقول : قم ، وهذا يقول : اقعد ، وذاك يقول : أطعمني ، والرابع يقول : اذهب إلى السوق ، وكلهم يأمرون بأوامر مختلفة ، وهذا العبد المسكين لا يدري من سيده الذي يأتمر بأمره ولا يدري عن سيده الذي لا بد وأن يسعى في إرضائه ، فهو متشوش الذهن ومنزعج البال ، ومضطرب في تنفيذ الأوامر لكثرة أسياده ، وهكذا حال المشرك ، فقد كان المشركون يعبدون آلهة كثيرة ، وقد كان حول الكعبة فقط قرابة الثلاثمائة صنم ، فكان لهم العزى واللات وهبل ومناة وكثير من المعبودات ، والواحد منهم بينها يدور فينذر لهذا ويعبد هذا ويسجد لهذا ويركع لهذا ويسأل هذا ويستغيث بهذا ، وهو متشوش الفكر لا يدري من المعبود الذي سيحقق له ما يريد ، فالمشرك له آلهة كثر ، ففكره معها متشوش ، وروحه بينها متنقلة ، كمثل العبد الذي تعددت أسياده وهم مذلك متشاكسون ، أي مختلفون في أمره ونهيه ، فهل هذا يكون كحال الموحد الذي لا يعبد إلا ربا واحد وإلها واحدا ، فسيده واحد وهو الله تعالى ، لا يأتمر إلا بأمره وينتهي عما نهاه عنه ربه ، ولا يسعى إلا في إرضائه ، فهو مرتاح البال هادئ القلب منشرح الصدر ، لأنه ليس عنده إلا مصدر واحد يتعرف منه على الأمر والنهي والمحبوب والمكروه ، فأين هذا حال الموحد من حال المشرك ، فهل يستويان مثلا ، لا والله لا يستويان مثلا ، فأين العارفون العقلاء عن هذه الأمثلة العظيمة ، والتي فيها بيان الحق من الباطل ، فالحمد لله رب العاملين ، والمهم أن ضرب المثال أصل من أصول الدعوة إلى الله تعالى في تقريب الحق وبيان منهج الباطل ، والله أعلم . المثال الرابع :- قال تعالى ] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ وهذا في القرآن كثير جدا ، وهو مثل ضربه الله تعالى على بيان قدرته الفائقة الكاملة على إحياء الموتى وذلك أن هناك من الأراضي ما يتأخر عنها المطر فتكون أرضا جردا لا نبات فيها ولا شجر ، والناس لا يفرحون بالذهاب إليها ، ولا ينظرون لها بعين الاعتبار ، فالغبار فيها يسف الوجوه ، ثم يأمر الله تعالى تلك السحابة فتخرج من أقطار الأرض، ثم يأمر الريح فتحملها على متنها وتسوقها إلى تلك الأرض، ثم ما إن تكون فوقها ، إلا ويأمر الله تعالى المطر فيخرج من خلال السحاب فيختلط الماء بحب الأرض فتزدهر تلك الأرض وتخضر وتكون جنة من الجنات في مياهها الجارية وخضرتها الوارفة وزرعها اليانع فيبدأ الناس يتسابقون عليها في حجز الأمكنة للمتعة والنظر في جمالها ، وليرعوا فيها أنعامهم ، سبحان الله من الذي أحيا هذه الأرض بعد أن كانت ميتة ؟ إنه الله تعالى ، فالذي قدر القدرة الكاملة على إحياء الأرض بعد موتها ، فهو قادر القدرة الكاملة على إحياء الناس بعد موتهم ، فما أن الله تعالى رد الروح والحياة إلى هذا الأرض القاحلة ، فهو قادر القدرة الكاملة على رد الحياة لهذا البدن وجمع أجزائه بعد شتاتها وتفرقها ، والله على كل شيء قدير ، فانظر في آخر هذه الآية الكريمة كيف نقلهم الله تعالى من مشهد إحياء الأرض بعد موتها إلى مشهد البعث يعد الموت ، فقال ] كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ فأي مثال أوضح من هذا ، فالله المستعان . المثال الخامس :- قال تعالى ] إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [ وهذا مثل عظيم ضربه الله تعالى لمن استعظم على الله تعالى أن يخلق نفسا من أم بلا أب فردهم الله تعالى إلى أمر يؤمنون به جميعا، وهي أن الأمم كلها تؤمن الإيمان الجازم بأن آدم خلقه الله تعالى بلا أم ولا أب ، فبين الله تعالى لهم أن الذي قدر القدرة الكاملة على خلق آدم بلا أم ولا أب أفلا يقدر من باب أولى على خلق عيسى من أم بلا أب؟ تالله إنه لقادر من باب أولى وهذا يذكرني بأمر آخر وهو أن الناس لما أنكروا البعث وقالوا : كيف تعود أجسادنا مرة أخرى بعد أن تفرقت وتلاشت وأكلها الدود والأرض ؟ فضرب الله تعالى لهم على قدرته على ذلك بمثالين : أحدهما :- استدل عليهم بالمبدأ على المعاد ، فقال تعالى ] وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ سبحان الله ، ما أروع هذا المثال ، وقبل أن أبينه أقول : ما رأيكم في رجل طلبنا منه أن يصنع مسجلا مثلا , فإنه في بداية صنعه سيتكلف الطريقة التي يتم بها صنع هذا المسجل ، فربما بقي سنين وهو يصنع هذا المسجل ، وبعد جهد جهيد في صناعته ، قلنا له :- نحن سوف نفكك هذا المسجل ، ونطلب منك أن تجمعه لنا مرة أخرى ، فبالله عليكم أيها العقلاء أي الصنعتين أيسر وأهون ، الابتداء ، أم الإعادة ؟ لا جرم أنها الإعادة ، ولهذا يقول الله تعالى لهم : إنني أنا الذي خلقتكم أول مرة من لا شيء ثم أحييتكم وأوجدتكم في هذه الحياة ، كل له فترة زمنية يعيش فيها ، ثم أميتكم وتأكل الأرض والدود أجزاءكم ، ثم أعيدكم مرة أخرى ، فكما أنني القادر القدرة الكاملة على ابتداء خلقكم ، فكذلك أنا القادر القدرة الكاملة على إعادتكم ، بل إن إعادتكم أهون علي من خلقكم الأول ، وكلها أصلا هينة على الله تعالى ، ولكنه خاطب القوم بما يعقلونه ، من أن إعادة الصنعة مرة أخرى أهون من ابتداء صنعها أول مرة ، فما المعجز في هذا الأمر والذي جعلكم تكفرون بالمبعث مرة أخرى ، إن هي إلا العقول المتحجرة ، ولذلك قال تعالى ] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [ فإن كان الذي أعياكم عن الإيمان بإعادتكم هو تفرق أجزائكم في الأرض فأنا بكل شيء عليم ، فأنا أعلم أين ذهب هذا الجزء ، وأين توارى الجزء الآخر ، فهذه الأجزاء المتفرقة والأشلاء المتقطعة لا تخفى عني ، فأنا أعلم مكانها العلم الكامل ، ولذلك قال تعالى ] قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ أي جميع ما تأكله الأرض والدود منهم قد علمنا أين هو ، وأين ذهب، فأشهد أن لا إله إلا الله ، اللهم فاشهد أننا مؤمنون الإيمان الكامل على قدرتك الكاملة على إعادتنا بعد موتنا والأمر الثاني :- من جملة ما استدل الله تعالى على قدرته على الإعادة استدلاله على قدرته بخلق الأشياء الكبيرة ، بمعنى أن يقال : ما رأيك أيها الأخ الكريم العاقل في شركة تعمير قد بنت ناطحات السحاب الكبيرة الطويلة ، ثم بعد ذلك يأتي رجل جاهل يقول لهذه الشركة : هل تقدرون على أن تبنوا لي غرفة صغيرة لعامل عندي ؟ فبالله عليكم ، هل هذا سؤال يطرح ؟ وهل ثمة شك يطرأ على قدرة هذه الشركة في بناء هذه الغرفة الصغيرة وهم الذين يبنون ناطحات السحاب ، ولله المثل الأعلى ، فمن بالله عليك خلق هذه السموات على اتساع أرجائها وما فيها من المجرات السيارة والكواكب العظيمة الهائلة ومن خلق هذه الأرض وما عليها من الجبال الرواسي والتي تناطح السحاب وتعلو عليه ، وهذه البحار الزاخرة بالمياه الهائلة ، بالله عليك من خلق هذا ؟ أليس هو الله تعالى وحده لا شريك له ، بلى ، إنه الله وحده لا شريك له ، فبالله عليك من خلق هذه الأمور الكبيرة العظيمة الهائلة ، أفيعجز أن يعيدك أيها المخلوق الصغير الضعيف كما كنت وأنت مجرد عظيمات صغيرة ولحم وعروق ليست بشيء ؟ أفيعجز عن هذا ، لا والله ولا وتالله ، ولا وبالله ، أقسم بالله أنه لا يعجز عن هذا ، بل هو القادر القدرة الكاملة على هذا ، فأين العقول عن إدراك هذه الحقائق والتي يضرب لها الله تعالى الأمثال ، ولكن كما قال تعالى ] وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [ ولذلك قال تعالى في بيان هذا الأمر ] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ وقال تعالى ] لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [ فانظر كيف عظمة هذه الأمثال الكبيرة ، وهذا يبين لك أن ضرب المثال من قواعد الدعوة وأصولها التي لا بد من مراعاتها والانتباه لها ، والله أعلم . المثال السادس :- قال تعالى ]وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ[ بمعنى أن المشركين كان من عادتهم قتل البنات خوف العار ، فكان الواحد منهم يقتل ابنته وهي مسكينة ضعيفة لا ذنب لها خوفا من العار ، فهم لا يرضون أن تنسب لهم البنات ، ومع ذلك فهم يقولون : الملائكة بنات الله ، سبحان الله ، أتنسبون لله تعالى ما لو نسب لأحدكم لاكفهر خاطره وتغير وجهه ؟ ولذلك قال ] أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [ وقال تعالى ] وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [ فإن بشر أحد هؤلاء المشركين بالبنت التي هو أصلا ينسبها إلى الله تعالى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، فأمر لا ترضونه لأنفسكم كيف تنسبونه لربكم جل وعلا ، وهذا يذكرني أيضا بمناظرة الباقلاني مع النصارى وأنه لما دخل عليهم قال لأساقفتهم :- كيف زوجاتكم وأولادكم ، فتغيرت وجوههم، لأن الأسقف عندهم لا ينبغي له أن يتخذ زوجة ولا ولدا ، فلما رأى ما في وجوههم قال لهم : سبحان الله أتتبرمون من أمر أنتم تنسبون الله تعالى له ، فإنكم تقولون :- قد اتخذ الله تعالى صاحبة وولدا ، ولو نسب الواحد منكم إلى اتخاذ الصاحبة والولد لتبرم واكفهر وجهه ، فإن كانت نسبة الصاحبة والولد تعدونه عيبا ونقصا في الواحد منكم فكان الواجب عليكم أن تنزهوا ربكم عنها ، ولكنها العقول الفاسدة التي لا تعقل ، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، والمهم الذي نريد إثباته هنا هو أن الداعية إلى الله تعالى لا بد وأن يعتمد منهج الوحيين في الدعوة إلى الله تعالى ومن مناهجها ضرب الأمثلة ، فالله الله أبها الداعية الموفق في هذا الأمر فإن عواقبه حميدة وعوائده طيبة ، والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . |