لا يتعارض نصٌ صحيح وعقلٌ صريح

                 القاعدة الثانية

لا يتعارض نصٌ صحيح وعقلٌ صريح

 

نعم إنه لا يمكن أن يتعارضا أبدًا ؛ لأن الذي أنزل النص من كتابٍ وسنةٍ هو الذي خلق    العقل ، وهو أعلم بما يقول من غيره ، وأحسن حديثًا ، وأصدق قيلاً من خلقه ، فإذا وُجِد ما يوهم التعارض بين النصوص والعقول فلا تخلو من أحد أمرين : إما أن يكون النص غير صحيحٍ ، فيجب حينئذٍ البحث عن صحة النص ، وإذا قلنا ( البحث عن صحة النص ) فنعني به إذا كان النص من السنة ، أما إذا كان النص من القرآن فلا يأتي البحث عن الصحة ؛ لأن القرآن كله متواتر ، فإذا بحثنا عن ثبوت النص فوجدناه ثابتًا بالسند الصحيح فننتقل إلى الحالة الثانية وهي : صراحة العقل ، وهو أن من شروط البحث في معنى النص الصحيح أن يكون الباحث فيه ذا عقلٍ سليم في التفكير ، معتقدًا لمنهج أهل السنة والجماعة ، لاسيما إذا كان النص المبحوث فيه من نصوص الصفات .

فإذا توفرت صحة النص وسلامة العقل فوالله الذي لا إله غيره أنه لا يمكن أبدًا أن يكون هناك تعارض ولا تناقض ، والدليل على ذلك أن كل الذين ادعوا التعارض بين العقل والنقل كلهم من أهل البدع والضلال ، ولا نعرف حرفًا واحدًا من خلاف التضاد بين السلف في مسائل الاعتقاد التي تستحق أن تكون من مسائل الاعتقاد ؛ كل هذا لتوفر هذين الشرطين ، صحة النص وسلامة العقل من الآفات الدخيلة عليه .

وهذه قاعدة مهمة في مذهب أهل السنة والجماعة ؛ حتى أفردها شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية بمؤلف خاص وهو كتابه الكبير المفيد المستصعب ( درء تعارض العقل والنقل ) .

وكما قلنا سابقًا أن النقل لا يمكن أن يأتي بما  يتعارض مع العقل وإنما يأتي أحيانًا بما يحار فيه العقل ، فما ضَلَّ من ضَلَّ من أهل الضلال إلا لأنهم جوزوا وقوع هذا التعارض ، فيا لله العجب كم جرّوا على الإسلام من بلية ، وفتحوا لأعداء الإسلام بهذا الكلام من باب ، والقوم لا يدرون أن النتن من عقولهم لا من النصوص - حاشا وكلا - إنما عقولهم الفاسدة

هي التي تقرمط في السمعيات وتسفسط في العقليات ، فلقد أمر الله تعالى بتدبر كتابه الكريم في أكثر من آية ، فلو قلنا بهذه المعارضة لما كان للأمر بالتدبر فائدة مع قيام هذه المعارضة ، فأهل السنة عندهم أصلان مهمـان لا بد مـن فهمهما : الأول : أن النقل أصـل والعقـل وسيلـة لفهمه . الثانية : أنه لا يمكن أن يتعارض نص ثبتت صحته وعقل ثبتت صراحته .

وحتى تتضح هذه القاعدة أكثر فسأذكر لك - إن شاء الله تعالى - بعض ما أوردوه في بعض النصوص التي ادعوا أنها تعارض العقول ، ونبين أن هذه النصوص إن ثبتت صحتها فإنها لا يمكن أن تعارض العقل .

فمنهـا : قـال الله تعـالى : } ءأمنتم من في السماء { . وقال النـبي - e - للجـــاريـة : (( أين الله ؟ )) . قالت : ( في السماء ) .

فقال أهل الضلال : لو أخذنا بظاهر هذا الحديث والآية للزم من ذلك أن يكون الله تعالى في داخل السماء ، أي أن السماء تضله ؛ لأن حرف ( في ) في اللغة العربية للظرفية ، كذا قالوا وبئس ما قالوا ، وما قالوا ذلك إلا لجهلهم باللغة العربية .

والجواب على ذلك من وجهين : بالمنع والتسليم ، فأما المنع فيقال : نحن نمنع أن تكون ( في ) هنا للظرفية ، بل هي بمعنى على ؛ فإن ( في ) تأتي في اللغة العربية بمعنى على ، ومصداق ذلك قول الله تعالى : } لأصلبنكم في جذوع النخل { أي على جذوع النخل ، ولا يفهم أحد من هذه الآية أن فرعون – عليه لعنة الله تعالى – سوف يحفر لهم داخل الجذع ويصلبهم فيها ، وكذلك قوله تعالى : } فسيحوا في الأرض { أي عليها ، ولا يفهم أحد أنهم أُمِرُوا بأن يحفروا في داخل الأرض ويسيحوا فيها ، ومن فهم ذلك من الآيتين فهو من الأغبياء ، فكذلك الآية التي معنـا معنـاها : علـى السمـاء .

وأمــا الجـواب بـالتسليم فنـقـول : سلمنـا أن المراد بـ( في ) هو الظرفية لكن لا نسلم أن المراد بـ( السماء ) هي ذات الأطباق الزرقاء بل المراد بها العلو ، فإن كل ما علاك فهو سماءٌ ، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى } وأنزلنا من السماء ماءً { والماء لا ينزل من السماء الزرقاء بل من السحاب المسخر بين السماء والأرض ، فعلى هذا لا يكون في الآية ما يتعارض مع العقل ، بل هي موافقة له كل الموافقة ؛ لأن العقل السليم يفرض صفة العلو المطلق لله تعالى.

ومنها : ما يُروى عن الرسول - e - (( الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض فمن قبله وصافحه فكأنما قبل يد الله تعالى وصافح يمينه )) . فقالوا : هذا الحديث يتعارض مع العقل ؛ لأنه يثبت عقيدة الحلولية وأن الله تعالى حال معنا ، فهو يثبت أن أحدًا يصافح الله تعالى .

والجواب أن يقال : لا تحكموا قبل النظر في صحة الدليل والنظر في صراحة العقل ، فهذا الكلام إذا نظرنا له من ناحية سنده مرفوعًا فهو إسناد مظلم لا يجوز معه نسبة هذا الكلام إلى النبي - e - ، وإنما يُعرف موقوفًا على ابن عباس - t - ، إذًا فقدْ فقدَ هذا الكلام شرطًا من الشروط وهو صحة السند ، لكن نقول : هذا الكلام من ابن عباس ليس للرأي فيه مجال ، وابن عباس لا يأخذ من أهل الكتاب ، فله حكم الرفع . والقاعدة عند أهل السنة تقول : إذا قال الصحابي قولاً ليس للرأي فيه مجال ، ولم يكن يأخذ عن أهل الكتاب فله حكم الرفع ، وفيه قال الناظم :

          وغيرهم واحكم له بالرفع       بشـرطه الآتي فخذه وارع

          إن لم يكن للرأي فيه معتنق      ولم يكن يأخذ عمن قد سبق

 

بل هذا الأثر لا يتعارض مع العقل حتى وإن كان من كلام ابن عباس - t - وذلك من وجوه :

أولها : أن ابن عباس قال : ( يمين الله تعالى في الأرض ) ، ولم يطلق هذه اليمين فهي يمين مقيدة بأنها في الأرض ، ويمين الله تعالى ليست في الأرض وإنما هي في السماء ، فعلم أنه لم يرد حقيقة يمين الله تعالى .

والثاني : أنه قال : ( فمن صافحه وقبله فكأنما صافح ) وهذا في اللغة أسلوب تشبيه ، ومن المعلوم بالعقل أن المشبه ليس هو المشبه به ، فدل هذا على أنه أراد التقريب فقط لا إرادة التمثيل ، أي إن الذي يقبل الحجر كأنه بمنزلة من قبَّل يد الله تعالى ، ومن صافح الحجر فهو بمنزلة من صافح يمين الله تعالى ؛ وذلك لأن عادة الملوك إذا دخل عليهم رعاياهم قبلوا أيديهم ولله المثل الأعلى ونستغفر الله تعالى ونتوب إليه .

ومنهـا : قـول الرسول - e - : (( إني أجدُ نَفَسَ الرحمن من قِبَل اليمن )) فقالوا لنا : قد وقعتم وقعةً لا تخرجون منها ، فإننا لو أخذنا بظاهر هذا الحديث فنحن حلولية ولا شك ، إذ فيه إثبات أن الرحمن حال ببعض مخلوقاته ، قلنا : لستم أيها الأغبياء من يوقع أهل السنة في شبهاتكم ، فإنها كما قال الخطابي :

حججٌ تهافت كالزجاج تخالها      حقاً وكل كاسر مكسور

فلننظر أولاً في صحة الدليل ودرجة ثبوته فنظرناه ، فوجدناه في غاية الصحة ، فلما تأكدنا من ثبوته نرجع إلى حقيقة معناه فوجدناه من أعظم الأدلة على صحة قاعدتنا من أنه لا يمكن أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح ، وبيان ذلك : أن الذي أوجب لكم الإشكال في هذا الحديث هو كلمة ( نفس ) وتحسبونها من النفس المعروف ، وهذا جهل منكم ، بل هي من نَفَّس يُنفِّس تنفيسًا ، أي من التفريج ، أي إن تفريج الله لعباده يكون من قبل اليمن ، وهذا هو الذي حصل ، فإن الله تعالى نفس على عباده في حروب الردة بأهل اليمن ، فهم أهل إيمانٍ وحكمة ، فعلى هذا المعنى الصحيح الذي هو ظاهر اللفظ لا يكون في الحديث أي إشكال ولله الحمد والمنة .

ومنها : قـال الرسـول - e - : (( قال الله تعالـى : عبدي مرضت فلم تعـدني ... جعت فلم تطعمني ... استسقيت فلم تسقني )) .

فقالوا : لئن فررتم من الحديث الأول  فلن تفروا من هذا ، فإن هذا الحديث معارض للعقل من كل وجه فإن العقل يوجب لله تعالى صفات الكمال وهذا الحديث فيه وصف الله تعالى بالجوع والضمأ والمرض فالواجب هو اطراحه ، كذا قالوا ولبئس ما قالوا ، هذا هو دأب القوم يجعلون عقولهم الناقصة وأهوائهم النتنة حاكمة على نصوص الكتاب والسنة فأي نص يعارضها رموا به عُرض الحائط غير آبهين به .

والجواب عما ذكروه أن يقال : الدليل لنا لا لكم ؛ فالسند مثل الشمس فقد رواه مسلم ، وأما معناه الصحيح ، فيفسره آخر الحديث ، فإن في آخره أن النبي - e - قال : (( أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده أما إنك لو عدته لوجدتني عنده ، أما علمت أن عبدي فلان استطعمك فلم تطعمه أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ، أما علمت أن عبدي فلان استسقاك فلم تسقه أما إنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي )) فهذا الكلام فيه تصريح لأهل العقول السليمة أن الله تعالى لم يمرض ولم يجع ولم يضمأ وإنما الذي جاع هو المخلوق والذي عطش واستطعم هو المخلوق ، فهذا موافق للعقل السليم أتم الموافقة ، والفروع على هذه القاعدة كثيرة وإنما المقصود الإشارة ، والله تعالى أعلم .

جميع الحقوق محفوظة الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ وليد بن راشد السعيدان