مذهب السلف وسَطٌ بين المذاهب وسطيَّة الأمة بين الأمم

   القاعدة الرابعة

مذهب السلف وسَطٌ بين المذاهب وسطيَّة الأمة بين الأمم

هذه قاعدة مفيدة لطالب العلم ومهمة في بابها فإنها تعتبر ميْزةً من ميزات أهل السنة     والجماعة ، وبيانها أن يقال :

أن الله تعالى في كتابه الكريم قد شهد إن أمة محمدٍ - e - أمة وسطًا ، فقال تعالى :        } وكذلكَ جعلناكُم أمَّةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على النَّاس ويكونَ الرسولُ عليكمْ شهيدًا { والوسط هم الخيار العدول ، فأمة محمدٍ - e - أمة وسط في عقائدها ، وأحكامها ، وذلك يتبين بضرب بعض الأمثــــلة :

فمنها : تعتقد أمة محمدٍ - e - أن عيسى عبد الله ورسوله ، وهم في هذا الاعتقاد وسط بين أمتين ، أمة اليهود وأمة النصارى ، فاليهود قالوا : إنه ابن بغي ، وكذاب ليس بنبي ،    فقلنا : هو رسول الله . والنصارى قالوا : هو الله وابن الله وثالث ثلاثة ، فقلنا : هو عبد الله .

ومنها : أن اليهود يرون أن الحائض لا تآكل ولا تجالس في البيوت ، والنصارى لا يحرمون جماعها ، والشريعة المحمدية تجيز أن يفعل الإنسان كل شيءٍ إلا النكاح . فالأولون أفرطوا ، والآخرون فرطوا ، والمسلمون توسطوا .

إذا علمت هذا فاعلم ، أن مذهب أهل السنة والجماعة وسط بين مذاهب الأمة وفِرَقِها كوسطية الأمة بين بقية الأمم ؛ ذلك أن النبي - e - ، قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة ،كلها في النار إلا واحدة ، وهذه الفرق تنقسم إلى ثلاث فرقٍ غالبـًا : فرقٌ أفرطت في هذه المسألة ، وفِرقٌ فرَّطت ، وفرقة واحدة فقط توسطت في كل المسائل ، فهذه الفرقة المتوسطة في كل مسائلها هي أهل السنة والجماعة ، وأما بقية الفرق فهم على طرفي نقيض ، إمّا مُفْرِطٌ وإمّا مُفَرِّطٌ .

وسبب هذه الوسطية التي تتمتع بها هذه الفرقة - زادها الله تعالى شرفاً ورفعة - هو أنهم تمسكوا بما كان عليه الرسول - e - وأصحابه ، تمسكاً لا زيادة معه ولا نقصان ، وقد تكفل الشارع أن من تمسك بالدليل فهو على الهدى والصراط المستقيم ، فالمتتبع لمذاهب الفرق يجد أن كل فرقةٍ من الفرق تأخذ ببعض الأدلة وتَدَعُ البعض ، لكن أهل السنة والجماعة يأخذون بكل الأدلة ، وحتى تتضح هذه القاعدة أزيدها بعض الفروع فأقول :

فمنها : مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات ، فهم وسط بين فرقتين ، المُمَثِّلة والمعطِّلة ، فالممثِّلة قالوا : نحن نثبت لله الصفات لكن على وجهٍ يماثل صفات المخلوقات ، والمعطِّلة قالوا : نحن ننـزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقات تنـزيهًا ننفي معه جميع الصفات ، فأهل التمثيل أخذوا بأدلة إثبات الصفات ، وتركوا الأدلة التي تنفي مماثلة الله تعالى    للمخلوقات ، والمعطلة أخذوا بالأدلة التي تنفي مماثلة الله تعالى للمخلوقات وتركوا الأدلة التي تثبت لله تعالى الصفات ، فكلاً منهم أخذ بطرفٍ من الأدلة ، فأصابوا من جانبٍ وأخطأوا من جانبٍ آخر . فأهل التمثيل أصابوا في جانب الإثبات - أي إثبات الصفات - وأخطأوا في جانب التمثيل ، وأهل التعطيل أصابوا في جانب التنـزيه ، وأخطأوا في جانب التعطيل .

فجاء أهل السنة وأخذوا الحق الذي مع كلا الطائفتين وتركوا الباطل ، وأخذوا بجميع أطراف الأدلة . فقالوا : نثبت لله تعالى من الصفات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله - e - مع نفي مماثلة المخلوقات ، فقولهم : ( نثبت لله الصفات ) وافقوا فيه أهل التمثيل ، وخالفوا فيه أهل التعطيل . وقولهم : ( مع نفي مماثلة المخلوقات ) وافقوا فيه أهل التعطيل ، وخالفوا فيه أهل التمثيل ، فمذهبــهم إثبـاتٌ بلا تمثيل ، وتنـزيهٌ بلا تعطيل ، وهذا هو معنى قول الله    تعالى : } ليسَ كمِثْلِهِ شيءٌ وهُو السَّميْعُ البَصِير { فقوله : } ليس كمثله شيءٌ { ردٌ على أهل التمثيل ، وفي قوله : } وهو السميع البصير { ردٌ على أهل التعطيل .

ومنها : مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة ، فهم وسط بين الوعيدية المكونة من الخوارج والمعتزلة ، وبين المرجئة الجهمية ، فقالت الوعيدية : إن مرتكب الكبيرة خارج عن الإيمان ، ليس له مطلق الإيمان . فقـالت الخوارج : هو كافرٌ . وقالت المعتزلة : بـل هـو في منـزلـة بين المنــزلتـين ، فأخـذوا بطـرف أدلـة الوعيـد وتركوا أدلـة الوعد ، وقالت المرجئة : بـل مرتكب الكبيرة كامل الإيمان لا يضره فعل أي كبيرة إلا الشرك ، فما دام يقول لا إله إلا الله ، فليعمل أي كبيرة فإنها لا تضره ، فأخذوا أدلة الوعد وتركوا أدلة الوعيد ، فكل من الفرقتين معها حق وباطل .

فالحق الذي مع الوعيدية هو : أنهم جعلوا فعل الكبيرة له تأثيرٌ في نقص الإيمان ، لكنهم أخطأوا في إخراجه من الإسلام .

والحق الذي مع المرجئة هو : أنهم لم يُخرجوا مرتكب الكبيرة من الإيمان ، والباطل الذي معهم هو أنهم لم يجعلوا للكبيرة تأثيرًا في نقص الإيمان .

فجاء أهل السنة والجماعة فقالوا : إن لفعل الكبيرة تأثير في نقص الإيمان ، فإذا فعل إنسان كبيرةً من الكبائر نقص من إيمانه بقدر هذه الكبيرة ، لكنه لا يخرج بمجرد فعل هذه الكبيرة من الإيمان ، فلا نعطيه الإيمان المطلق ولا نسلبه مطلق الإيمان ، وهم بهذا قد أخذوا بكل    الأدلة ، أدلة الوعد التي مع المرجئة وأدلة الوعيد التي مع الوعيدية ، فقولهم :( لا نسلب عنه مطلق الإيمان ) ردٌّ على الوعيدية ، وقولهم : ( ولا نعطيه الإيمان المطلق ) ردٌّ على المرجئة ، والله تعالى أعلى وأعلم .

ومنها : أي ومن صور الوسطية أيضاً مذهب أهل السنة والجماعة في حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة ، فهم وسط بين فرقتين بين فرقة الوعيدية وبين فرقة المرجئة . فقالت الوعيدية : هو خالد مخلد في النار لا يخرج منها أبدًا . وقالت المرجئة : بل هو في الجنة مباشرة لا يمر على النار ولو للحظة . وقال أهل السنة : بل حكمه إلى الله تعالى ، فإن شاء عفا  عنه وغفر له وأدخله الجنة ابتداءً ، وإن شاء عذبه في النار بقدر كبيرته ، ثم يخرج منها إلى الجنة لكن لا يخلد فيها ، وعلى هذا دلت أدلة الشفاعة المتواترة ، وفي ذلك قال الناظم نونيته :

جاني الكبيرة ليس يكفر عندنا           ويكون عند قيامة الأبدان

تحت المشيئـة إن أراد عذابـه          فبعدله أو إن أراد الثانـي

فبفضله فهو الرحيـم بخلقـه           وهو الغفور لما جناه الجاني

ومنها : مذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر، فهم وسط بين فرقتين ضالتين كل الضلال ، فرقة الجبرية وفرقة القدرية . فقالت الجبرية : إننا نؤمن بقضاء الله تعالى وقدره لكننا مجبورون عليه ، فليس لنا قدرة ولا اختيار ، بل إذا عصينا فإنما نعصي بقدر الله تعالى ومحبته ، فهم يثبتون القدر ويسلبون العبد القدرة والمشيئة . وقالت القدرية : بل إن أفعال العباد ليست مقدورة لله تعالى ولا يعلمها إلا بعد وقوعها ، وذلك أنهم خافوا من إثبات ذلك أن يكون الله تعالى ظالماً ، وبيان ذلك : أننا لو  قلنا إنّ الله هو الذي خلق أفعال العباد فإن في أفعال العباد الخير والشر ، ففيها الزنى والكفر واللواط ، وغير ذلك من أفعال الشر فلو قلنا إن الله تعالى هو الذي قدرها عليهم فكيف يعذبهم عليها ؟ هذا من باب الظلم والله تعالى مُنزَّهٌ عن الظلم ،كذا قالوا ولبئس ما قالوا .

أما أهل السنة والجماعة فقالوا : بل كل شيء بقدر الله تعالى وعلمه لا يخرج شيء عن أن يكون مقدورًا لله تعالى ، والعبد له مشيئة وقدرة واختيار وله عقل يميز بين الخبيث والطيب ، قال تعالى : } وما تشاءونَ إلا أن يَشاءَ الله { والله تعالى في كتابه الكريم ينسب الأفعال إلينا مما يدل على أن لنا فيها قدرة واختيار ، لكنّ قَدَر الله نوعان : قَدَرٌ كوني ، وقَدَر شرعي ، فكل أفعال الشر فهي من باب القدر الكوني ، وهو كالإرادة الكونية لا يلزم فيها أن يحبها الله     تعالى ، قال الناظم في منظومة الاعتقاد :

وقـدرنّ ربنـــا مالا يحـب          كونًا ولا يرضيه هذا يا مـحب

       ككفـر فرعون كـذا أبي لهـب               وخلـق إبليس وذا قسمٌ ذهب

ومنها : مذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة وآل البيت ، فهم وسط بين فرقتين من أخبث الفرق : فرقة الشيعة وفرقة الخوارج ، فالشيعة قدَّست بعض الصحابة ، ورفعت آل البيت لمرتبة الألوهية - والعياذ بالله تعالى - ، والخوارج تعبدت إلى الله تعالى بسبِّهم وإهانتهم وقتلهم .

أمّا أهل السنة فقالوا : نحبُّهم ، لا نفرط في حب أحدٍ منهم ، ونبغض في الله تعالى من     أبغضهم ، وأنهم عندنا عُدُولٌ كلهم بنص القرآن والسنة . قال الناظم :

ونحب آل البيت حقاً واجباً          بل من أصول عقيدة الإيمان

لا تفعلن كفعل عباد الهوى          أو تفعلن كشيعة الشيطـان

 والفروع على هذه القاعدة يعرفها من تتبعها ، والله تعالى أعلى وأعلم .

جميع الحقوق محفوظة الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ وليد بن راشد السعيدان