القاعدة الثالثة والعشرون
الرسل كلهم لم يدعوا إلا لتوحيد الألوهية
اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن التوحيد لغة : هو مصدر وحد يوحد توحيدًا أي جعل الشيء واحدًا ومنه قولهم وحد البلدة أي جعلها واحدة تحت حاكم واحد . واصطلاحًا : هو إفراد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، ومن هنا نعرف أقسام التوحيد ثلاثة أقسام : توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وبعضهم يجعلها قسمين : توحيد القصد والطلب وهو توحيد الألوهية ، وتوحيد المعرفة والإثبات وهو التوحيدين الآخرين .
إذا علمت هذا فاعلم أن توحيد الربوبية أمر مركوز في الفطر لا يحتاج إلى تقرير وإنما يحتاج إلـى تذكير وذلك لقوله تعالى في الـحديث القدسي : ( خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ) . وقوله - e - : (( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) ولم يقل يمسلمانه أي يجعلانه مسلمًا لأنه مسلم بالأصالة ولذلك أجمعت كلمة علماء أهل السنة والجماعة إلا من شذ ولا يعول على قوله أن أولاد المؤمنين معهم في الجنة ، بل حتى المشركين يقرون بهذا التوحيد ، بل لم يعرف عن أحدٍ إنكاره باطنًا أبدًا ، أما ظاهرًا فيعرف إنكاره عن فرعون فإنه أنكر الربوبية لكن فضحه الله بقوله : } وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا { أي أقروا بها باطنًا وتيقنوا أنها الحق لكن جحدوها في الظاهر ظلمًا وعلوًا ، وكذلك الدهرية الذين يصرفون الموت والحياة للدهر ، وقد قال الله تعالى عنهم : } ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت نحيا وما يهلكنا إلا الدهر { ، وكذلك الثنوية الذين يقولون إن العالم له صانعان إله الخير وإله الشر لكن لا يعرف أن أحدًا من الأفراد أو الفرق أثبت إلهين معبودين مستويين في خصائصهما أبدًا ، وهذا له موضع آخر ، والمقصود أن توحيد الربوبية توحيد مغروز في الفطر ، ولا يكفي الإقرار به للحكم بالإسلام ، بل لا يعصم الدم والمال فإن المشركين الذين بعث فيهم رسول الله - e - كانوا يقرون أن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت ، ولذلك قال تعالى : } ولــئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله { وقال تعالى : } قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون { ومـع ذلك الإقـرار بهـذا التوحيـد فقـد قاتلهـم النبي - e - واستباح دمائهم وسبى نساءهم واستعبد رجالهم مما يدل على أن مجرد الإقرار به ليس هو المطلوب ، إنما المطلوب هو التوحيد الثاني وهو : توحيد الإرادة والقصد أي توحيد الألوهية أو توحيد العبادة ولذلك كل الرسل من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى آخرهم محمد - e - لم يدعوا إلا لهذا التوحيد وإن ذكروا توحيد الربوبية فإنـما ذكروه استدلالاً به على توحيد الألوهية لم يذكروه حتى يقرءوه في نفوس الناس ، ولذلك قال تعالى : } وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون { ، وقال تعالى عن جميع الرسل أنهم قالوا لأقوامهم : } اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون { وهـذا هـو مـذهب السلف الذي تؤيده الأدلة ولذلك قال الرسول - e - في حديث ابن عمر في الصحيحين : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... )) الحديث ، وفي حديث أبي هـريرة في الصحيحين : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله فمن قالها عصم من ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله تعالى )) ، وفي حـديث طـارق بـن أشيم الأشجعي : (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله )) رواه مسلم ، والأحاديث والآيات التي تؤيد هذه القاعدة كثيرة جدًا ، ومع هذه الأدلة وهذا الوضوح إلا أن الله تعالى أعمى بصـائر بعض الفـرق الصوفية وطوائف من أهل الكلام فقالوا : إن الرسل بعثت لتقرير توحيد الربوبية ويجعلون تقرير الربوبية هـو الغايـة والمقصد الأول ويفسرون ( لا إله إلا الله ) بتوحيد الربوبية وهـذا خطـأ وجهـل وكـذب إن نسب إلى السلف ، بل الرسل كلهم لم يدعوا إلا لتوحيد الألوهية وإن ذكروا توحيد الربوبية فإنما يذكرونه استدلالاً به على غيره لا يذكرونه تقريرًا ، والبحث في كلمة التوحيد من معناها وأركانها وشروطها ونوا قضها ومتعلقاتها ذكرته في موضعٍ آخر عند شرحي للمنظومة إنما أردت هنا أن أقرر هذه القاعدة بأدلتها ، قال الناظم :
واعلم بأن الله جـل جـلاله خلق العباد على مدى الأزمان
كي يعبدوه ويفـردوه بحقـه فهـو الإلـه فمـا إله ثـاني
وبذاك قد بعث الكرام جميعهم وتنـزلت كتب من الرحمـن
فالله تعالى أعلى وأعلم
|