القاعدة الثامنة والعشرون
الأصل في العبادات الحظر والتوقيف
لقد شرحنا هذه القاعدة في غير هذا الموضع شرحًا مفصلاً لكن نذكر هنا جملاً نافعة - إن شاء الله تعالى - ، فأقول :
إن معرفة الأصل في الأشياء من أهم ما ينفع طالب العلم في بحثه وفتاواه ، فإنه إذا عرف الأصل ، ثبت عليه ولا يتعداه إلا بدليل ناقل عنه ، فمن ذلك : أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة ، والأصل في الميتات الحرمة ، والأصل في الفروج التحريم ، والأصل أن اليقين لا يزول بالشك ، ومن ذلك - ما نحن بصدده - : أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف إلا بدليل شرعي ، وذلك لأن أحدًا لا يعرف ما يجوز التعبد به لله ومالا يجوز ؛ لأن العقول لا تستقل بإدراك الشرع ، وإلا لما احتجنا إلى إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، لكن لضعف العقل عن إدراك الشرع بعث الله الرسل وأنزل الكتب ، حتى تبين للناس ما يجب عليهم من العبادات أصولاً وفروعًا ، فما وجدنا فيها من العبادات تعبدنا بها ، ومالا فلا .
وليس الدليل على نافي العبادة إذا لم يثبت لها دليل شرعي ، ولكن الدليل على المثبت لها ؛ وذلك لأن الدليل على الناقل عن الأصل ، لا على المثبت عليه ، فإذا ادعى أحد أن هذا الشيء عبادة فنحن نطالبه بالدليل ، فإن أتى به قبلنا وتعبدنا ، وإن لم يأت به فلا ، وهذا هو مذهب السلف - y - ، فالعبادات مبناها على الشرع لا العقل ، بخلاف من جعل العبادة مبناها على ما تنتجه عقولهم الفاسدة ، كالصوفية الذين يتعبدون إلى الله تعالى بأذواقهم العفنة ، وكالمعتزلة الذين يوجبون ويحرمون بعقولهم المنتنة ، وغيرهم من الطوائف من الذين تركوا عباداتٍ دلَّ الدليل عليها ، وأمر بها الشارع ، إما أمر إيجاب أو ندب ، بل ويحاربونها أشد المحاربة ، ثم تراهم يقومون بعبادات لا خطام لها ولا زمام .
فإن فتح الباب للعقل في هذا المقام إقحام للعقل في غير موضعه ، فالحكم لله ، كما قال تعالى : } إن الحكم إلا لله { وهذا هو توحيد الحاكمية ، أي لا حاكم شرعًا وقدرًا إلا الله . فالحلال ما أحل الله تعالى ، والحرام ما حرمه ، وما سكت عنه فهو عفو ، والأدلة على ذلك كثيرة ، ذكرناها في شرح القواعد الفقهية .
واعلم أن هذا هو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، فماذا بعد الحق والسنة إلا الباطل والبدعة ، والبدع في الشرع كلها ضلال وفي النار . فالواجب الوقوف عند الدليل ، هذا هو النجاة ، والله غني عن العالمين ، والكلام عن البدعة وأقسامها ذكرناه في شرح المنظومة فليراجعها من شاء ، والله تعالى أعلم .
|