القاعدة الأولى:- تصحيح بناء الدعوة على العقيدة السليمة مطلب رئيس في سلامتها واستقامتها.
وهذا هو الحق الذي ينبغي التنبه له ، فإنه كم من الدعوات التي ظهرت في العالم الإسلامي ، ولكنها بادت وانتهت وتلاشت معالمها لأنها لم تبن على أصل الاعتقاد الصحيح ، وكم من الدعوات التي كتب الله تعالى لها البقاء والقبول وما ذلك إلا لأنها بنيت على الاعتقاد الصحيح المتفق مع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم سلف الأمة وأئمتها ، فالدعوة لا بد وأن يكون سيرها ومنهجها مبنيا على ذلك ، وإلا فإنه سيكون فسادها وأثرها القبيح على الأمة أكثر مما يرجى من صلاحها إن كان فيها من الصلاح شيء ، ولو أنك قلبت الطرف في الدعوات التي بنيت على العقائد الفاسدة لرأيت مصداق ما أقول ، فالله الله أيها الدعاة الكرام في الاهتمام بهذا الأمر ، فإنه بيت القصيد وأعظم سبب من أسباب نجاح الدعوة ، وإن قلنا ( الاعتقاد الصحيح ) فإننا نعني به اعتقاد أهل السنة والجماعة ، فأهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى بنوا دعوتهم على ثلاثة أمور :- على الكتاب ، وعلى السنة الصحيحة ، وعلى فهم سلف الأمة وأئمتها ، من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل القرون المفضلة ، فلا ينبغي تجاوز تلك الأصول الثلاثة ، ولذلك قرر أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في هذه المسألة عدة قواعد مهمة في فهم السبل التي قامت عليها دعوتهم ، فمن تلك القواعد ما نصوا عليه بقولهم ( أهل السنة والجماعة لا يأخذون معتقدهم إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ) وهي من كبريات قواعد التلقي عندهم ، ومنها قولهم رحمهم الله تعالى ( كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل العقيدة والعمل فإنه فهم باطل ، وكل رأي يخالف المعروف عن سلف الأمة فإنه رأي عاطل ) فمسألة فهم الأدلة عند أهل السنة رحمهم الله تعالى له ضوابطه ومقيداته ، فهم لا ينطلقون في فهم نصوص الشريعة من مقتضى الرأي المجرد ولا بالعقل البعيد عن هداية النص ولا من الشهوة والتعصب للرجال ، ولا غير ذلك ، بل هم جعلوا فهم الدليل موقوفا على فهم سلف الأمة ، فما ورد من الفهم في الأدلة مجمعا عليه عند سلف الأمة فإن أهل السنة لا يتعدونه قيد أنملة ، ومن ذلك أيضا قولهم رحمهم الله تعالى ( كل قياس خالف النص فإنه فاسد الاعتبار ) وذلك مخالف لعامة أهل البدع من أهل الدعوات الزائغة ، من الذين جعلوا عمدتهم في عقائدهم إنما هو معارضة المنقول بالعقول العفنة والأفهام المنتنة ، فإنك إن نظرت إلى أهل البدع على وجه العموم لوجدت أن مخالفة النصوص بالعقول والأهواء هي السمة البارزة فيهم ، فالدعوة أيها الأحبة لا بد وأن تكون سليمة في اعتقادها ، سليمة في منهج تلقيها ، سليمة في قواعدها التي تنطلق منها في فهم النصوص ، فهذا كله مؤثر التأثير الكبير في سيرها وقبولها ورضا الله تعالى عنها وتوفيق أهلها ، وبقائها واستمرارها ، وأنا من هذا المنبر أوصي إخواني الدعاة إلى مراجعة الأصول التي بنوا عليها دعوتهم ، وإلى النظر فيها بعين المراقبة لله تعالى فإن كانت الأصول والمناهج متفقة مع المتقرر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومتفقة مع ما قرره سلف الأمة من العقائد والعمل ، ومتفقة مع التقعيد الموروث عن أهل السنة في التلقي والفهم فالحمد لله على التوفيق والموافقة ، وأما إن كان من أصولها ما هو مدخول ببعض الهوى والمخالفة للأدلة ولما عليه أهل السنة ، فلا بد من التصحيح ، ولا يحملنا التعصب للرأي وقادة الدعوة التي نحن عليها على مخالفة ما هو مقرر في الكتاب والسنة ، فإن الواجب على المسلم الصادق في إيمانه أن يقدم قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم على كل قول ، وليس العيب في وجود الخطأ ، وإنما العيب في معرفة الخطأ وأنه خطأ ، ومع ذلك نستمر عليه ، إما عنادا ومكابرة للحق ، وإما جهلا بالدليل ، فالدعوة إلى الله تعالى لا بد وأن تكون على المنهج السليم والصراط المستقيم ، ولا يمكن أن تكون الدعوة كذلك إلا إذا روعي فيها أن تكون على المنهج السليم في الاعتقاد والتأصيل والعمل ، ومن المعلوم أن لكل دعوة أصول وقواعد منها تنطلق ، فلا بد وأن تكون هذه الأصول والقواعد لها ما يشهد لها وما يصححها من الكتاب والسنة ، وهذا ليس من الأمور الاختيارية التي تدخل تحت الإرادة بين القبول الرفض ، لا ، بل تصحيح الدعوة على منهج الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة من الأمور الواجبة التي يثاب فاعلها امتثالا ، ويستحق العقاب تاركها ، ومن القواعد المقررة في هذا الباب أيضا :ــ قول أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى ( هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هدي غيره ) بل جعل العلماء رحمهم الله تعالى أن من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه أكمل وأفضل من هدي النبي عليه الصلاة والسلام فإنه مرتد كافر ، ومن ذلك قولهم رحمهم الله تعالى ( الدين مبناه على أن لا يعبد إلا الله تعالى وأن لا يعبد إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم ) ومن ذلك قولهم ( كل بدعة في الدين فهي ضلالة ) والأصول التي قررها أهل السنة رحمهم الله تعالى في هذا الباب كثيرة جدا ، والمهم أن الداعية لا بد وأن يزن أمور الدعوة التي هو عليها بميزان الكتاب والسنة باطنا وظاهرا ، فإن كانت متفقة معها فليستمر على ما هو عليه ، وإن كانت تخالفها في شيء ، فلا بد وان يسعى جاهدا في تصحيح الخطأ وذلك لأن تصحيح الدعوة على العقيدة السليمة والمناهج السليمة مطلب رئيس فيها ، والله المستعان فانظر بالله عليك كيف تعبد الخوارج بقتل عباد الله تعالى لأنهم بنوا هذا على أصل فاسد :- وهو القول بتكفير مرتكب الكبيرة ، وانظر كيف نفى المعتزلة صفات الله تعالى ، لأنهم بنوه على أصل فاسد وهو أن إثبات الصفات لله تعالى يستلزم مماثلة الله تعالى بالمخلوقات ، لأن الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات، وانظر كيف وقع الرافضة في تكفير الصحاب وسبهم والقدح فيهم والغلو الكبير في الاعتقاد في آل البيت لأنهم بنوا هذه العقائد الباطلة على الأصول الفاسدة ، وانظر كيف أنكر القدرية القدر لأنهم بنوا هذا على إنكار العلم السابق وأن لا قدر وأن الأمر أنف ، وانظر كيف وقع الصوفية فيما وقعوا فيه من الخرافات والضلالات والبدع التي لا يحصيها إلا الله تعالى لأنهم بنوا هذا على الأصول والمناهج الفاسدة المخالفة للكتاب والسنة ، بل انظر إلى من يسمون بجماعة التكفير والهجرة كيف وقعوا في تكفير عموم المسلمين ، وما هذا إلا لأنهم بنوا هذا التكفير على الأصول الفاسدة المخالفة للكتاب والسنة ، والأمثلة في العالم الإسلامي كثيرة جدا ، فلا بد من غربلة الأصول التي تسير عليها في دعوتك ولا بد من النظر فيها وما يستجد عليها بالنظر العلمي الثاقب ، فما وافق الحق بقي ، وما خالفه نسف فلا بد من تصحيح العقيدة ، فإن أهل العقيدة الصحيحة هم أهل النجاة ، وهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يصح بمجموع طرقه " وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار ، إلا واحدة ، وهم الجماعة "(1) وفي لفظ " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " وفي لفظ " وهم الناجية " وقال عليه الصلاة والسلام "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"(2) فالدعوات التي فاح طيبها وأثرت الأثر الإيجابي في العالم الإسلامي لا تراها إلا تلك الدعوات التي بنيت على العقيدة السليمة ، وإنه والله لمن المظاهر المؤلمة - في المدة الأخيرة - وجود بعض من ينتسب إلى العلم أو من الشباب الذين نشؤوا على العقيدة الصحيحة , ثم مالوا أو تبنوا بعض مناهج أهل البدع مثل من مال إلى الصوفية وصار من دعاة هذا المذهب وهو يشعر أو لا يشعر , ومثل من مال إلى المدرسة العصرانية وصار يقدم أفكاراً توافق أصولهم , ومثل من مال إلى مذهب الأشاعرة وصار يدعو إلى مذهبهم وبغض مذهب أهل السنة. ويؤسفنا أن أهل البدع فرحوا بهذه الفئة وطاروا بها وبأقوالها في كل ناد، وصاروا يحتجون بهؤلاء على صحة مذاهبهم وبطلان مذهب وعقيدة أهل السنة. قال في المفصل في فقه الدعوة ( فسلامة العقيدة أهم المهمات وأوجب الواجبات، العقيدة السليمة سبب للنصر والظهور والتمكين والاجتماع، العقيدة السليمة تحمي معتنقيها من التخبط والفوضى والضياع، وتمنحهم الراحة النفسية والفكرية، وتدفعهم إلى الحزم والجد في الأمور، تكفل لهم حياة العزة والكرامة.والعقيدة في الإسلام هو الأساس الذي يقوم عليه بناء الإيمان في نفس الإنسان المسلم، ولا بد أن تظهر أثار العقيدة في سلوك الإنسان وأعماله. فإذا كانت العقيدة راسخة في قلب الإنسان ونفسه نرى أثر هذه العقيدة في استقامة خلقه وسلامة تصرفاته وحسن معاملاته.إذن العقيدة هي التي تصيغ الحياة إماً سلباً أو إيجاباً وإذا أدركنا ذلك ندرك سر الاهتمام البالغ الذي أولاه الإسلام للعقيدة، فقد عالجت السور المكية قضية العقيدة في نفوس المسلمين معالجة عميقة بكافة جوانبها، ولذلك من الطبيعي جداً أن ينعكس أي ضعف أو خلل أو غبش يطرأ على عقيدة المسلمين وتصوراتهم ونظراتهم للأمور والأشياء أن ينعكس على سير الدعوة ويسفر عن ضعف ووهن وهزيمة أمام العدو في ميادين الدعوة.وإن في غياب العقيدة السليمة تدخل الوساوس والهواجس القلوب ومن ثم يسيطر الخوف والوهن والرعب على النفوس، إذن فلا بد من الاهتمام الشديد بالجانب العقدي للدعاة وتربيتهم على العقيدة الصحيحة ) فالعقيدة الصحيحة هي حزام الأمان من الزيغ والضلال والانحراف إلى مهاوي الردى ، وهي العاصمة من قواصم الاختلاف والاعتداء والتطرف ، وهي بإذن الله تعالى المنجية من التخبط والخلط التي يؤثر سلبا على الأفراد والمجتمعات والدول والكون بأسره ، وهي التي تحمي العقول من الشطط والخلل الفكري ، فالله الله أيها الدعاة الأفاضل الكرماء بتصحيح بناء جدار الدعوة على البناء العقدي الصحيح الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ، والله الله بالارتباط بأهل العلم الناصحين الراسخين في علمهم وأمانتهم ، من أهل السنة والجماعة ، فلا عز للبشرية ولا صلاح للإنسانية إلا بتطبيق الإسلام، والإسلام الحق المبني على العقيدة الصحيحة، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، والسير على ما سار عليه السلف الصالح ، إنه لا بد وان تكون منطلقاتنا مبنية على الاعتقاد السليم ، ولا بد وأن نربي أتباعنا على الاعتقاد الصحيح ، وأن نغرس حب أهل التوحيد وأهل السنة في قلوب الأتباع ، وأن نبين لهم أنه لا عمل يقبل ولا خير يرجى من دعوة بنيت على غير هدي العقيدة الصحيحة ، وهل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى اكتسبت هذا القبول العام والتوفيق الكبير والبقاء والانتشار والتمكين في الأرض إلا لأنها دعوة بنيت على العقيدة الصحيحة ، فالشيخ رحمه الله تعالى مجدد العقيدة في زمانه ، ونقسم بالله تعالى على حبه ، وعلى حب الدعوة التي جاء بها ، ونشهد بالله تعالى أنها الدعوة التي عليها أهل الحق من أهل السنة والجماعة ، وأما الأدلة على صحة هذه القاعدة فكثيرة جدا ، وهي أنواع من الأدلة يجمعها ما يلي : الأول :- كل دليل يأمر بالتمسك بالكتاب والسنة وبالاعتصام بهما فهو دليل على هذه القاعدة لأن التمسك بهما لا يكون إلا بسلوك المعتقد الصحيح وبالعمل الصحيح المتفق معهما ، قال تعالى ] وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [ وقال تعالى ] وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [ فوصف الله تعالى هذا الصنف بأنه مصلح ، والمصلحون هم الدعاة إلى الله تعالى وبين أن من صفاتهم ( التمسك والتمسيك بالكتاب ) وهو الذي نعنيه ببناء الدعوة على العقيدة الصحيحة وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوَداع يوم عرفة ، وهو على ناقته القَصْواءِ ، يَخْطُبُ فَسَمِعْتُهُ يقول « إِني تَركْتُ فيكم ما إنْ أَخذْتُمْ به لن تَضِلُّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيْتي » أخرجه الترمذي(1). وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم « إِنِّي تَاركٌ فيكم ما إن تَمسَّكْتُمْ به لن تَضِلُّوا بعدي ، أَحدُهما أَعظمُ من الآخر وهو كتابُ الله ، حبلٌ مَمْدودٌ من السَّمَاءِ إِلى الأرض ، وعترتي أَهل بيتي ، لنْ يَفْترقا حتى يردَا عليَّ الحوضَ ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ؟ » أخرجه الترمذي(2). وقال العرباضُ بن سارية رضي الله عنه صلى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ ، ثمّ أقبل علينا بوجهه ، فوعَظَنا موعِظةً بَليغةً ذَرَفتْ منها العيون ، ووَجِلت منها القلوبُ ، فقالَ رجل : يا رسولَ الله ، كأنَّ هذه موعظةُ مودِّعٍ ، فماذا تَعْهدُ إلينا ؟ قال « أُوصيكم بتقْوى الله ، والسَّمعِ والطاعة ، وإنْ عَبْدًا حبشيًّا ، فإنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيَرى اختلافًا كثيرًا ، فعليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفَاءِ الراشِدينَ المهديِّينَ ، تمسكوا بها ، وعَضُّوا عليها بالنواجِذِ ، وإياكم ومُحدثاتِ الأمورِ ، فإنَّ كلَّ مُحدثَةٍ بدْعةٌ ، وكل بدْعَةٍ ضَلاَلَة » (1) وعن أبي رافع رضي الله عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال « لا أعْرِفَنَّ الرَّجُلَ منكم يأتيه الأمْرُ من أمري : أَمَّا أمَرْتُ به ، أو نهيتُ عنه ، وهو متكئ على أريكته ، فيقول ، ما نَدْري ما هذا ؟ عندنا كتابُ الله وليس هذا فيه. وما لرسول الله أنْ يقول ما يُخالفُ القرآن ، وبالقرآن هَدَاهُ اللهُ » أخرجه الترمذي وأبو داود. وفي لفظ « لا ألْفِيَنَّ أحدَكُم متَّكئًا على أريكته ، يأتيه أمري : ممَّا أمرتُ به ، أو نَهيتُ عنه فيقولُ لا أدْرِي ، ما وجدْنا في كتاب الله اتَّبعْناهُ »(2) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنَّ مَثَلَ ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غَيْثٍ أصاب أرضًا فكانت منها طَائِفَةٌ طيِّبَةٌ ، قَبِلَت الماءَ فأنْبَتت الكلأ والعُشْبَ الكثير ، وكان منها أجادِبُ أمْسَكت الماءَ فنفع الله بها النَّاسَ ، فشربوا منها وسَقَوْا ورَعَوا ، وأصابَ طَائِفَةً منها أخْرى ، إنَّما هي قِيعَانٌ لا تُمسِكُ ماءا ، ولا تُنْبِتُ كلأً ، فذلك مَثَلُ مَنْ فَقُه في دين اللهِ عزَّو جلَّ ، ونَفَعَهُ ما بعثني الله به ، فعلِمَ وعلَّم ومَثَلُ من لم يَرْفع بذلك رَأسًا ، ولمْ يقبل هُدى اللهِ الذي أرْسِلْتُ به » أخرجه البخاري ومسلم(3). وقال رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إن مَثَلي ومَثَلُ ما بعثني الله به ، كمثل رجلٍ أتى قَوْمَهُ فقال : إنِّي رأيتُ الجيش بِعَيْنيَّ ، وإِنيِّ أنا النِّذيرُ العُريان ، فالنَّجاءَ ، النَّجاءَ ، فأطاعَهُ طائِفَةٌ من قَوْمِهِ ، فأدْلَجوا فانطلقوا على مَهْلِهِمْ فنَجَوْا ، وكذَّبت طائفَةٌ منهم ، فأصبحوا مكانَهم ، فصبَّحهم الجيش فأهلكَهم اجْتَاحَهُم ، فذلك مثل من أطاعني واتَّبَعَ ما جئْتُ به ، ومَثَلُ من عصاني ، وكذَّبَ ما جئتُ به من الحقِّ » أخرجه البخاري ومسلم(4). والأدلة في هذا المعنى لا تكاد تحصر إلا بكلفة ، كلها تأمر الأمر القطعي بالأخذ والتمسك والاعتصام بالكتاب والسنة ، وهذا الأمر عام ومطلق ، فيدخل فيه الاعتصام والتمسك بهما في أمور العقيدة ، وفي أمور العمل ، وفي أمور الدعوة ، وفي صغير الأمور وكبارها ، النوع الثاني من الأدلة :- كل دليل ينهى عن الإحداث في الدين فإنه دليل على صحة هذه القاعدة ، لأن الدعوة إلى الله تعالى من الأمور التعبدية التي يتقرب بها إلى الله تعالى ، وحيث كانت من أجل القربات وأكبر الطاعات ، فلا بد وأن تكون موقوفة في أصولها وقواعدها ومناهجها على الكتاب والسنة ، فمن أحدث في أصول الدعوة أو مناهجها ما ليس عليه أمر الشرع فهو رد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي لفظ لمسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "(1) وقال عليه السلام " أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " رواه مسلم(2) ، فحتى لا نكون من المحدثين في أمور الدعوة فلا بد وأن تكون دعوتنا مبنية على هدي الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، فإننا إن فعلنا هذا نكون بذلك قد أمنا من الإحداث المذموم في الدين والمتوعد عليه بالعقوبة ، النوع الثالث من أنواع الأدلة الدالة على صحة قاعدتنا :- كل دليل يدل على وجوب متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يدل على صحة هذه القاعدة ، كقوله تعالى ] قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي [ وقال تعالى ]الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ... الآيات[ والنصوص كثيرة ، فمتابعته شرط في قبول العمل ، فمن اخترع للدعوة أصلا أو منهجا ودعا الناس له وهو على غير هدى من الكتاب والسنة ، فعمله هذا باطل ، ودعوته لا أجر له فيها ، بل لا نظنه يسلم من العقاب أيضا ، فهو مستحق له ، لأن الدعوة إلى الله تعالى من الدين ، والدين مبناه على الاتباع لا على الابتداع ، ولا يقبل الله تعالى من الأعمال إلا ما كان خالصا صوابا ، والخالص ما كان لله تعالى ، والصواب ما كان على السنة ، فالدعوة التي قررت بالأصول المخالفة للدين ، والمخالفة لمنهج سيد المرسلين ، وبنيت على غير الاعتقاد الصحيح فإنها دعوة ضالة مضلة ، وفسادها أكثر من صلاحها ، ولا أجر ولا خير فيها ، بل هي دعوة مردودة على أصحابها ، لتخلف شرط قبول العمل عنها ، وهو الإخلاص والمتابعة ، والله أعلم .بل استمع إلى قول الله تعالى ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ فإن ختم الآية الواردة في شأن الدعوة بقوله {وما أنا من المشركين} لأكبر دليل على وجوب تصحيح المنهج الدعوي على العقيدة السليمة ، لأنها إعلان صريح من الله تعالى ، أن الدعوة التي جاء بها هذا النبي الكريم بنيت على التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة ، فلا شرك فيها ولا بدعة ولا مخالفة لهدي الكتاب والسنة ولا أصول فيها مخالفة للمنهج الصحيح والصراط المستقيم ، بل استمع إلى قول الله تعالى ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ فهذا بيان قطعي في أن دعوة الأنبياء من أولهم إلى آخرهم إنما ارتكزت في بداياتها ونهاياتها على العقيدة الصحيحة ، ومن أنواع الأدلة الدالة على صحة هذه القاعدة :- كل دليل فيه بيان العقوبة على من تخلف عن الأخذ بالكتاب والسنة ، كقوله تعالى ] وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي - أي كلامي المنزل - فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [ والإعراض عن العقيدة الصحيحة والتربية عليها وانبثاق الدعوة منها هو في حقيقته إعراض عن الكتاب والسنة ، والمهم أن هذه القاعدة من القواعد المتفق عليها فيما نعلم ، فهي من الأهمية بما كان ، فلا بد من اعتمادها وجعلها أصلا من أصول الدعوة إلى الله تعالى وأن نسعى السعي الحثيث على وزن ما عندنا من المناهج الدعوية والأصول التي نستعملها في الدعوة إلى الله تعالى على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة وأنا أذكر لك بعض الفروع المخرجة على هذه القاعدة الطيبة حتى تكون على بينة مما أريد فلا يشتط بك الفهم ، وتفهم مني ما لا أريده ، فأقول :-
منها :- من الأصول الدعوية عند بعض الجماعات عدم الكلام في أمور التوحيد والعقيدة ، بحجة أن الكلام في التوحيد ينفر ويفرق ولا يجمع ، وهذا أصل باطل ، لا بد من إلغائه ، فهو مخالف للكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة ، فالكلام في مسائل التوحيد والدعوة إلى التوحيد هي زبدة الدعوة إلى الله تعالى ، وهو أهم شيء في الدعوة ، وأعظم ما بعث به الرسل من أولهم إلا آخرهم ، وأكبر مقصود نزلت بتقريره الكتاب ، وهو أول ما افتتح به الأنبياء دعوة أممهم ، وهو أصل الأعمال وأصلها وشرط قبولها ، فما الفائدة من عمل بلا توحيد ، فما تقرره هذه الجماعة من هذا الأصل الذي جعلوه معقد الولاء والبراء هو باطل كل البطلان ، بل الكلام في التوحيد وبيان الحق من أمور العقيدة من الباطل أصل رئيس في دعوة الأنبياء والرسل وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها ، فلا بد من إبطال هذا الأصل وتحذير من يعتمده ، وأن نبين له أن الدعوة التي لا تقوم على منهج العقيدة الصحيحة دعوة فاسدة فاشلة لا خير فيها ، والله المستعان .
ومنها :- إن من الجماعات التي تنتسب للإسلام من يؤصل أن العبرة بالكم لا بالكيف ، فنحن لا ننظر إلى الفروق العقدية بين الأفراد ما دام يجمعهم اسم الإسلام ، فالصوفي والرافضي والتكفيري والخارجي كلهم تحت سقف الإسلام ، فلماذا نتفرق ، ولماذا نبث بيننا الجزازات في مسألة هذا كذا وهذا كذا ، وهذا الأصل والله العظيم هو أصل فاسد وباطل ، بل التفريق بين أهل الهداية والاستقامة وبين أهل البدعة والفجور أصل أصيل في الدعوة ، كما قال تعالى ] أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ بل إن عقيدة الولاء والبراء منبثقة من هذا التفريق بين أهل السنة وأهل البدع وبين أهل الإسلام وأهل الكفران ، بل انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على الكلام على الفرق وبيان حكمها في الإسلام وبيان مخالفاتها والتحذير منها وبيان بطلانها ، وانعقد إجماعهم على التحذير من أهل البدع والتحذير من مجالستهم والاستماع لهم ، وانعقد إجماعهم على الأمر بإهانتهم وعدم إكرامهم فلا يكفي أن نجتمع تحت مظلة الإسلام فقط ، بل لا بد وأن نكون مجتمعين تحت سقف الاعتقاد الصحيح الذي قرره أهل السنة والجماعة ، ثم إننا نعتقد ، بل ونجزم أنه لا يمكن أن يكون هناك اجتماع وتآلف في الحقيقة إلا على الحق المتفق مع الكتاب والسنة وهدي سلف الأمة ، ثم أي خير يرجى في تجمعات لا يكون منطلقها من الحق ؟ والمهم أن هذا المنهج باطل ، وهذا الأصل فاسد ، بل الواجب علينا أن نبين الفروق العقدية وأن ننكر على المخالف فيها ، وأن نبين زيف قوله للناس ، وأن لا نجالسه ولا نأخذ عنه ، وأن نحذر منه ، بيانا للحق ، ونصحا للخلق ، وأن نقول للمحسن أحسنت ونقول للمسيء أسأت ، فهذه الجماعة بنت هذا الأصل على غير العقيدة الصحيحة ونحن ندعوها إلى تصحيح بنائها الدعوي تأصيلا وتفريعا على العقيدة الصحيحة ، والله المستعان .
ومنها :- إن من الجماعات من بنت دعوتها على عدم لزوم متابعة سلف الأمة في الفهم ، فتراهم يفهمون الأدلة على مقتضى ما تمليه عليهم عقولهم ، في أمور قد قال السلف فيها كلمتهم ، وانعقد عليه فيها إجماعهم ، ويقولون :- هم رجال ونحن رجال ، ولهم عقول ولنا عقول ، ولا نلزم بمتابعة من يصيب ويخطئ ، والمهم أنهم بنوا دعوتهم على نسف فهو سلف الأمة ، وهذا مبدأ فاسد ، وهوى متبع وقد ثارت بيني وبين بعض طلبة العلم مناقشة في هذه المسألة ، فألفت فيها رسالة ، أسميتها ( تذكير الخلف بوجوب اتباع فهم السلف لأدلة الكتاب والسنة ) وذكرت فيها الأدلة الدالة على هذه المتابعة وأننا لم نقلها هكذا جزافا ، بل لها أدلتها من الكتاب والسنة الصحيحة ، فإن شئت النظر في الرسالة المذكورة فهو أفضل إن شاء الله تعالى ، والمهم أن هذا الأصل أصل فاسد ، ففصل الأمة عن فهم سلفها لا نرضاه ، بل نحن نحاربه ونحارب أهله ، بل الحق أن الدعوة الصحيحة لا تكون إلا إن بنيت على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة ، وفي الكتاب المذكور قررت فيه خمسين فرعا ينبثق من تلك القاعدة ، وهي أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة فإنه باطل ، فالدعوة لا تكون صحيحة بنسف فهم السلف ، فلا بد من تصحيح مسار الدعوة واعتماد منهج السلف وفهمهم ، لأن تصحيح مسار الدعوة على الاعتقاد الصحيح مطلب رئيس فيها. والله المستعان .
ومنها :- إن من الدعوات المنتشرة في العالم الإسلامي والعربي من أصلت رد حديث الآحاد في أمور العقيدة ، فجعلت دعوتها مبنية على عدم قبول أخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد ، وردت بسبب ذلك كثيرا من الأصول الشرعية ، والعقائد المرعية ، التي قررها أهل السنة والجماعة ، فهذا الأصل والمنهج في بحث المسائل العلمية والعملية باطل ، بل الحق أن خبر الآحاد الصحيح حجة ، ولا يجوز رد شيء من النصوص إن ثبتت نسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فما صح عنه صلى الله عليه وسلم فالواجب قبوله واعتماد مدلوله ، بغض النظر عن كونه من المتواتر أو من الآحاد ، وبغض النظر عن المسألة التي ورد فيها أهو في مسألة عقدية أو مسألة فقهية ، وإنما المهم صحة السند ، فما صح سنده فالواجب قبوله ، هذا هو ما عليه السلف الصالح ، وأما رد الحديث بحجة أنه من أخبار الآحاد في مسائل العقيدة فهو مسلك أهل البدع ، فالواجب على من يقرر هذا أن ينتبه لفساده وبطلانه ، وقد ذكرنا الأدلة الدالة على وجوب قبول خبر الآحاد في كتابنا في الأصول ، والمهم هنا هو أن السير وبناء الدعوة والتعليم على رد خبر الآحاد باطل ، فلا بد من تصحيح هذا المنهج ، لأن الواجب في الدعوة هو تصحيح سيرها على المعتقد الصحيح ، والله المستعان .والفروع كثيرة وإنما المقصود الإشارة ، وتتضح هذه القاعدة بالقاعدة بعدها ، والله أعلم .
(1) إسناده حسن أخرجه الإمام أحمد ( 28/135 ) والدارمي (2/241) والطبراني في "الكبير (19/884) والآجري في "الشريعة" ص 18، والحاكم في "المستدرك (1/128) وغيرهم من حديث معاوية بن أبي سفيان .
(2) رواه البخاري في الاعتصام بالسنة، (باب : قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لا تزال طائفة..)) (13/293- فتح) ومسلم في الإمارة، (باب: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لا تزال طائفة..)) (13/70- النووي) ، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد.. وغيرهم.
(1) أخرجه الترمذي رقم (3790) في المناقب ، باب 77 ، وإسناده ضعيف ، لكن يشهد له حديث زيد بن أرقم ، ولذا قال الترمذي رحمه الله : هذا حديث حسن غريب
(2) أخرجه الترمذي رقم (3790) في المناقب ، باب 77 ، وقال : حديث حسن غريب
(1) حديث صحيح رواه أبو داود في " السنة " رقم (4607) : باب لزوم السنة ، والترمذي في العلم رقم (2678) : باب 16 ، وإسناده صحيح ، وأخرجه أحمد في المسند 4/126 ، 127، وابن ماجة في المقدمة رقم 42 باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين .
(2) رواه أبو داود رقم (4605) في السنة : باب لزوم السنة ، والترمذي رقم (2666) في العلم : باب رقم (10) وإسناده صحيح . وقال الترمذي : حسن ، وأخرجه أحمد 6/8 وابن ماجة في المقدمة رقم (13)
(3) حديث صحيح رواه البخاري 1/185 في العلم ، باب فضل من علم وعلم . ومسلم رقم (2282) في الفضائل ، باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم .
(4) حديث صحيح البخاري 14/98 في الرقاق : باب الانتهاء عن المعاصي ، ومسلم رقم (2283) في الفضائل : باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته .
(1) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم 4/298 في البيوع : باب النجش ووصله في الصلح 5/221 : باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ، ومسلم رقم (1718) في الأقضية : باب نقض الأحكام الباطلة ، وأبو داود في السنة : باب لزوم السنة 2/506 ، وأخرجه ابن ماجة في المقدمة : باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم 14 .
(2) رواه مسلم رقم (867) في الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والخطبة .
التعليقات