القاعدة الثالثة والخمسون :- كشف الشبهات مسلك للوقاية من قبيح العمل والاعتقاد .
أقول :- لا يزال أهل العناد والجهل والكبر يجلبون بخليهم ورجلهم على هذه الشريعة المباركة بالتشكيك وبث الشبه بين العامة والخاصة ، وإن بث الشبه على الحق من المناهج الخطيرة التي قد خصص لها الكفار طائفة منهم ، لا هم لهم إلا النظر في الأدلة الشرعية والعقائد الإسلامية واستخراج ما عساه أن يكون قادحا في الدين ، وهازا لثبوته ورسوخه في قلوب أتباعه ، ولا تزال تلك الشبه الخطيرة تأتينا من هنا وهناك من أهل الكفر والعناد ، ومن أهل البدع والإلحاد ، شبه في أبواب العقيدة ، وشبه في أبواب الفقه وغيرها من أبواب الشريعة ، ومن لهذه الشبه بعد الله تعالى وتوفيقه وحسن فضله إلا العلماء والدعاة ، فإن قصرت هذه الطائفة في كشف تلكم الشبه فناهيك عن الفساد الكبير والشر العريض المستطير الذي سيقع في الأمة ، فمن حق الأمة على الدعاة وأهل العلم ومن واجبهم تجاه دينهم أن يحموه من تلك الشبه ، وذلك بكشفها وكسرها على صخرة الكتاب والسنة ، وأن يبين زيفها للعامة وأنها مجرد خيالات لا حقيقة لها ، وأنها من إلقاء الشيطان ووسوسته وتلبيسه على الناس ، فلا تضر تلك الشبه بإذن الله تعالى من أحد إن تولاها أهل العلم بالكشف والرد والبيان ، واعلم رعاك الله تعالى أن منهج كشف الشبهة من المناهج الدعوية الكبيرة التي قررها كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا بدمن اعتماد هذا المنهج والاهتمام به وعدم الغفلة عنه ، لما في الغفلة عنه من الخطر الكبير على عقيدة الأمة وشريعتها ، وقد قام أهل العلم الأوائل والمعاصرون بهذا الواجب خير قيام ، فقد ردوا على أهل الكفر والبدع ما يطرحونه في ساحة الأمة من هذا السخف والباطل ، ولم يدعوا منها شاردة ولا واردة إلا تولوها بالرد والكشف والبيان ، كما فعله الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على الجهمية فيما شككوا به في متشابه القرآن ، وكما فعله الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على بشر المريسي ، فإنه قد أتى على غالب الشبه التي يموه بها هذا الحمار من حمر الجهمية النفاة ، وكما فعله الإمام عبدالعزيز الكناني في رده على بشر أيضا ،وذلك في قوله بأن القرآن مخلوق ، وإن من أكبر من قام بهذا المنهج من المتأخرين من أهل العلم شيخ الإسلام والمسلمين في عصره أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية رحمه الله تعالى ،و كذلك تلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ، وقد سار سلف الأمة وأئمتها على هذا المنهج الكبير - وأعني به الحرص التام على كشف الشبهة والرد على أهل الكفر والمخالفة والبدعة - بل إن الرد على أهل البدع من أصول الإسلام الكبيرة التي لا بد من اعتمادها والاهتمام بها ، وقد قام بهذا الدور الكبير في العصور القريبة أئمة الدعوة ، من لدن الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى وأبناؤه الأكارم وأحفاده البررة ، وتلاميذه الأخيار ، فقد قاموا بهذا الواجب خير قيام ، أسأل الله تعالى أن يجزيهم عنا وعن المسلمين خير الجزاء وأن يبارك في جهودهم وأن يجعل قبورهم روضة من رياض الجنة ، وأن يجمعنا بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ولا يزال أهل العلم المعاصرون لنا يهتمون بهذا الجانب ، ويولونه العناية الكبيرة ، جزى الله الجميع خير الجزاء ، ونسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يثبتهم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ولكن كشف الشبهة والرد على أهل البدع لا بد وأن يكون منبثقا من النية الحسنة ، وهي هداية الناس وحماية دينهم من هذا الاعتداء ، لا مجرد التشفي والانتقام من أحد ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد منه بيان الحق وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحًا، وإذا غلظ في ذم بدعة أو معصية، كان قصده بيان ما فيها من الفساد، ليحذر العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرًا، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان، لا للتشفي والانتقام) وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ( فالعالم ينظر بنور الله ، ويكشف الله على يديه الشُّبهات والمتشابهات ) وقال رحمه الله تعالى في بيان وجوب الحذر من مرض الشبهة (مرض القلب نوعان : نوع لا يتألم به صاحبه في الحال : وهو النوع المتقدم كمرض الجهل ومرض الشبهات والشكوك ومرض الشهوات وهذا النوع هو أعظم النوعين ألما ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له وهو متوار عنه باشتغاله بضده وهذا أخطر المرضين وأصعبهما وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم فهم أطباء هذا المرض) وقال رحمه الله تعالى (وقد تقدم أن جماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات والقرآن شفاء للنوعين ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية : من التوحيد وإثبات الصفات وإثبات المعاد والنبوات ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة مثل القرآن فإنه كفيل بذلك كله متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه كما يرى الليل والنهار وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم : بين علوم لا ثقة بها وإنما هي آراء وتقليد وبين ظنون كاذبة لا تغني عن الحق شيئا وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل ) وفي هذا المجال لا بد من التنبيه على عدو أمور :-
الأول :- لا بد وأن تعلم أنه ما من شبهة إلا وفي الكتاب والسنة كشفها ، ولكن الأمر في كشفها يتفاوت بين عالم وعالم ، ولكن ليس ثمة شبهة يتفوه بها مبطل وليس في الأدلة ردها ، هذا لا يكون أبدا وأقسم بالله تعالى على هذا الأمر ، أن كل الشبه التي تلقى على الدين هنا وهناك ففي الأدلة ما يكشفها ويبين عوارها ، ولكن كما ذكرت لك أن الأمر يحتاج إلى علم راسخ وفهم ثاقب ونظر وتأمل وهذا فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء .
الثاني :- لا بد وأن تعلم قاعدة طيبة أفادها أبو العباس رحمه الله تعالى وهي :- أنه ما مبطل يحتج بحجة على باطله إلا وفي نفس الحجة ما يبطلها ، ويرد عليه بها ،لأن الحق لا يدل إلا على الحق ، فكيف يستدل بالحق على الباطل ، هذا لا يكون ، فمن استدل حجة حق على أمر من الأمور الباطلة، فاعلم أن في نفس حجته التي جاء بها ما يكشف زيف استدلاله ، ويبطل دعواه ، ولكن كما ذكر العلماء أن هذا الأمر يحتاج إلى تأمل وطول نظر ورسوخ في العلم وكمال معرفة بالأدلة ، فلو تأملت قليلا في حجته التي جاء بها ، لتبين لك أنها عليه لا له ، ولذلك فإن أبا العباس رحمه الله تعالى قد رد في مواضع كثيرة على أهل الباطل بنفس حجتهم التي استدلوا بها ، فقد كان يقلب الحجة عليهم بأسلوب النبيه الذكي، والحال كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية في حال شيخه مع خصومه ، قال
ومن العجائب أنه بسلاحهم أرداهم تحت الحطيط الداني
الثالث :- قد اشترط أهل العلم رحمهم الله تعالى في الذي يتولى كشف الشبهة أن يكون قويا في الرد فلا ينبغي تولية قليل العلم ، ولا ضعيف الحجة في الرد على أهل البدع ، فإن هزيمته لا تعد هزيمة لشخصه بل لأهل السنة كلهم ، وإن بعض وسائل الإعلام لها دور كبير في ترجيح نصاب أهل البدع على أهل السنة بما يعقدونه بين بعضهم من المناظرات العلنية ، ولكن يحرصون على أن يكون المناظر من أهل البدع جلدا في الحجة قويا في الطرح ، وأما جانب أهل السنة فإنهم لا يحرصون على استضافة العلماء الراسخين ، وهذا في الأعم الأغلب ، فتجد أن المبتدع يصول ويجول في حلبة المناظرة من غير حجة ترده ولا برهان يصده ، وهذا الآخر ضعيف ليس بأهل للمناظرة ، فاحذروا من هذا بارك الله تعالى فيكم فالقوة في رد الشبهة أصل من أصول المناظرة ، فلا ينتصب لكشف الشبه والرد على أهل البدع إلا الراسخون في العلم والفهم والدراية التامة بحقيقة ما عليه أهل البدع ، وكم من منتسب لأهل السنة ليس عنده علم بمذهب أهل السنة إلا النزر اليسير فضلا عن اطلاعه على مذهب من يناظره من أهل البدع فمثل هذا الصنف من الناس لا تجوز له المناظرة ، لأن ما يفسده أكثر مما يصلحه ، فإنه يبني قصرا ويهدم مصرا ، قال شيخ الإسلام في حق أمثال هؤلاء ( وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة ، وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجا قويا من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة ) وقد ابتلينا في هذه الأزمنة بالمناظرات في الشبكة العنكبوتية، بتلك الأسماء المستعارة ، والتي لا ندري فيها عن حال من يناظر لا من أهل البدع ولا من أهل السنة ، فالحذر منها ومن الدخول فيها يا معاشر أهل السنة وليترك الأمر لأهل العلم العارفين الراسخين ، والله المستعان
الرابع :- لا ينبغي إثارة الشبه أمام العامة ، فإن الشبه خطافة للقلوب ، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يحذرون من هذا الحذر الكبير ، خوفا على دين العامة ودفعا للمفاسد العامة ، وخوفا من أن تفهم الشبهة ويتشربها القلب ولا يفهم الجواب على الوجه الصحيح ، فالعامة لا يقال لهم شيء من الشبه فالسلامة لا يعدلها شيء ، فالعامة ليسوا من أهل الفهم الكامل في العلم ، وليحذر العامي من الدخول في المواقع التي تخص أهل البدع ولو بنية الاطلاع على ما عند القوم ، فإن هذا من تعريض الدين للهلاك والخدش ، وقد قرر أهل العلم حرمة النظر في كتب أهل البدع إلا للعالم المتضلع من علوم أهل السنة بنية الرد عليها .
الخامس :- ليس كل مبطل تفوه بخرافة لا بد وأن يجاب عنها ، لا سيما إن كان من المغمورين الذين لا يؤبه بهم ، ولا ينظر لهم بعين الاعتبار ، ولا سيما إن كان ما جاء به من الخرافة أمره ظاهر ، وبطلانه قد فاحت منه روائح النتن والفساد ، وذلك لأن الرد عليه مما يشهر أمره ويظهر صيته ، والحق أن يترك مثل هذا ، فإن تركه من أعظم ما يعالج به مثل هذا الصنف من أهل المخالفات ، مع العلم بأن غالب هؤلاء مريض مرض شهوة ، فهو يحب الظهور ، فلا يجد له طريقا للظهور إلا بنشر مخالفته ، فلو أن أهل العلم انبروا للرد عليه لكان في هذا قرة عينه وراحة روحه وتحقيق مقصده ، فلا يعامل هذا الصنف إلا بالإعراض عنه ، ويقال له {قل موتوا بغيظكم} ولذلك فإن الرد على أهل البدع وكشف الشبهة لا بد وأن يقرن بتحقيق المصالح ودفع المفاسد ، فالأمر يفتقر إلى الاجتهاد ، ولذلك خصصناه بأهل العلم العارفين بالمصالح والمفاسد ، والله أعلم. والمقصود من هذا الكلام أن لا تترك الساحة لأهل الأهواء يبثون فيها شبههم ، ويستعظلون فيها بباطلهم ، ويضلون العامة بتلك الآراء الشاذة والترهات الباطلة ويبقى الدعاة والعلماء منزوون في ناحية من النواحي ، لا أثر لهم في دعوة العامة ومحاربة أهل الأهواء والتشكيك ، بل لا بد وأن يكون لهم الدور الكبير في نسف ما يلقيه هؤلاء من تلك الشبه الشيطانية والأطروحات الإبليسية ، حتى يأمن الناس على دينهم ، وهذا من الأمور الواجبة على أهل العلم، ولكنه واجب مربوط بتحقيق المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
التعليقات