القاعدة السابعة :- ترك الداعية للخير الذي يأمر به، واقترافه لما ينهى عنه قبيح في العقول والفطرة والشرع .
أقول :- إن من أقبح القبح أن يراك الناس قد اجتهدت في الأمر بما أنت تارك له ، وأن يراك الناس مقترفا لما نهيت عنه ، والله إن هذا قبيح جدا ، وقبحه لا يستطيع القلم ولا اللسان وصفه ، بل هو ممقوت أشد المقت ، قال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [ وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما روي عن ابن عباس أنه قال : كان أناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لَوَدِدْنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه ، إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به .فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فنزلت هذه الآيات . وقال قتادة والضحاك : نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون : قتَلْنَا ، ضرَبْنَا ، طَعَنَّا وفَعَلنْا ، ولم يكونوا فعلوا ذلك ، وقال تعالى ] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [ قال ابن كثير رحمه الله تعالى (يقول تعالى: كيف يليق بكم - يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله تعالى ] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [ قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وبالبر، ويخالفون، فَعَيّرهم الله عز وجل. وكذلك قال السدي. وقال ابن جريج ] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [ أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، وَيَدَعُونَ العملَ بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.وقال محمد بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس ] وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [ أي: تتركون أنفسكم ... والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم ) وقال تعالى عن شعيب عليه الصلاة والسلام ] وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [ قال ابن كثير رحمه الله (أي: لا أنهاكم عن شيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم، كما قال قتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر ) وعن أسامة رضي الله عنه أنه قِيلَ لَهُ: لَوْ أَتَيْتَ فُلاَنًا فَكَلَّمْتَهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ، دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ وَلاَ أَقُولُ لِرَجُلٍ، أَنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا: إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ، بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ " يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ"(1) ففي هذا الحديث : وعيدٌ شديد لمن خالف قوله فعله ، وأنَّ العذاب يُشَدَّدُ على العالِم إذا عصى أعظم من غيره ، كما يضاعف له الأجر إذا عمل بعلمه .وفي الحديث " رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال: الخطباء من أمتك ، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون "(1) والله إن الأمر لعظيم ، ونسأل الله تعالى الخلاص من هذه الهوة السحيقة والحفرة العميقة ، وما أشد هذه القاعدة على قلوبنا ، فإننا أهل التقصير والتفريط فكم قد أمرنا الناس بما لا نفعله ، ونهيناهم عما نحن واقعون فيه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ولله در من قال :-
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال ابن مسعود رضي الله عنه (من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبِّخ نفسَه ) فالعلم إن لم يترجم إلى عمل فما الفائدة منه ، فعلى طالب العلم كما يجد في الطلب أن يجد في العمل فإنه أولى الناس بقطف ثمرات علمه ، وقد وصف الله تعالى من لا ينتفع بعلمه بأبشع الأوصاف ، فقال تعالى ] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [ وقال تعالى ] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ فالأمر خطير والعاقبة فيه وخيمة ، إن الله تعالى جعل اهتمام المرء بنفسه وتزكيتها قبل أن يلتفت إلى الآخرين محوراً للإصلاح ، حتى لا يكون الطعن في سلوكه سبيلاً وحجة للآخرين يتعذر بها عن عدم الانصياع للأمر أو النهي ، وكم من داعية لا يعمل بعلمه صار من أكبر الفتن للناس في البعد عن قبول الدعوة ، فالله الله أيها الدعاة بالعمل بالعلم ، فليكن همك وحرصك على العمل بالعلم أكبر من همك وحرصك على الدعوة لما تعلم ، مع أن كليهما من الأهمية بمكان ، ولكن لا ينفع أحدهما إلا بالآخر فهما متلازمان التلازم الكبير الذي لا ينفك ، فإن أنظار الناس ناقدة وسهامهم نافذة ، لاسيما فيمن يقول القول من الخير ولا يعمل به ، فالحذر الحذر من أن يواجهك أحدهم بقول :- أنت توجهنا لأمر من الخير لا نراك فاعلا له ، أو نراك تحذرنا عن الأمر الذي أنت واقع فيه ، وهذا أمر سيسمعه كثيرا من يخالف في العمل بالعلم ، فكن أيها الداعية المبارك أول من يلتزم بالأمر الذي يدعو له ، وأول من يترك الأمر الذي يحذر منه ، فإن مخالفة ذلك من الأمور التي تقبح بك ، عافاك الله من كل سوء وبلاء ولكن لا بد وأن ننبه على أمر مهم ، وهو :- أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن ترك المعروف لا يستلزم ترك الأمر به، وفعل المنهي عنه لا يستلزم ترك النهي عنه ، فهما عبادتان واجبتان وترك إحداهما لا يستلزم ترك الأخرى ، والله تعالى لما قال ] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [ لا يفهم من هذا أنه عاب عليهم الأمر بالمعروف ، وإنما عاب عليهم نسيانهم لأنفسهم من فعل هذا المعروف ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور " كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه " فهذا العذاب والعقوبة الواردة في الحديث ليست على أمر الناس بالمعروف ولا عن نهيهم عن المنكر ، وإنما هي لترك العمل بالمعروف والتقحم في المنكر ، فلا يسوغ لتارك فعل المعروف أن يترك الأمر بفعله ، لأنه سيترك واجبين ، الفعل ، والأمر به ، ولا يسوغ لفاعل المنكر أن لا ينهى عنه ، لأنه سيقع في بليتين ، فعل المنكر ، وترك النهي عنه ، فهذا أمر وهذا أمر ، ولكن الواجب شرعا فعل المعروف والأمر به ، وترك المنكر والنهي عنه ، لكن إن فوت أحدهما ، فلا يسوغ له تفويت الواجب الثاني ، فانتبه لهذا بارك الله تعالى فيك ، قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ويل للذي لا يعلم وويل للذي يعلم ولا يعمل ، سبع مرات. ويروى في الحديث « إذا علم العالم ولم يعمل كان كالمصباح يضيء للناس ، ويحرق نفسه »(1) وقال سري بن المغلس السقطي : كلما ازددت علما كانت الحجة عليك أوكد . وكان السلف رحمهم الله تعالى يخافون من تفويت العمل بالعلم خوفا كبيرا حتى قال الشعبي رحمه الله : ليتني لم أكن علمت من ذا العلم شيئا . وقال سفيان الثوري رحمه الله : ليتني لم أكتب العلم ، وليتني أنجو من علمي كفافا لا علي ولا لي . وقال ابن عيينة رحمه تعالى : العلم إن لم ينفعك ضرك . قلت : يعني إن لم ينفعه بأن يعمل به ضره بكونه حجة عليه ، ومن المنقول عن لقمان أنه كان يقول لابنه «يا بني لا تتعلم ما لا تعلم حتى تعمل بما تعلم » وقال بعضهم " وعالم بعلمه لم يعملن ، معذب من قبل عباد الوثن " فاللهم إنا نسألك العون على العمل بالعلم والتوفيق في الأمر كله وأن لا تجعل علمنا علينا وبالا ، وأن لا تجعلنا فتنة للناس ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
(1) حديث صحيح , رواه البخاري 6 / 238 في بدء الخلق ، باب صفة النار ، وفي الفتن ، باب الفتنة التي تموج كموج البحر ، ومسلم رقم (2989) في الزهد ، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله .
(1) هذه الرواية ليست عند البخاري ولا مسلم ، وإنما رواها أحمد في " المسند " 3 / 120 و 231 و 239 من حديث أنس بن مالك ، ورواها أيضاً ابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أنس ، وهو رواية حسنة .
(1) الحديث ضعفه الإمام الألباني رحمه الله , وقيل أن إسناده فيه إسناد فيه سليمان بن عمرو النخعي وهو كذاب وضاع.
التعليقات