القاعدة التاسعة :- الدعوة مبناها على تحقيق المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها .
أقول :- إن الدين كله مبني على تحقيق المصالح ودفع المفاسد ، بمعنى أن ما لا يحقق المصلحة أو يجلب المفسدة فإنه ليس من الدين في صدر ولا ورد ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالصَّلَاحِ وَنَهَى عَنْ الْفَسَادِ وَبَعَثَ رُسُلَهُ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا) وقال رحمه الله تعالى (والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فهي تحصل أعظم المصلحتين بفوات أدناهما وتدفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما) وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (فإن الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل) وقال الشاطبي رحمه الله تعالى (التكاليف مشروعة لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية) وقال أيضا (إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا)وقال أيضا (المعتمد إنما هو أنا استقرأنا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه أحد) فمراعاة المصالح والمفاسد في الدعوة إلى الله تعالى أصل أصيل وقاعدة راسخة فيها ، ولا يمكن بحال أن يتحقق النفع في الدعوة إلى الله تعالى إن تخلف عنها هذا الأصل الأصيل ، فعلى الداعية إلى الله تعالى مراعاته ، والأدلة على هذه القاعدة كثيرة جدا لا تكاد تحصر ، ولكن نذكر لك أهمها , فمنها :- قوله تعالى ] وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [ فانظر كيف نهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين لما كان سبها يفضي إلى المفسدة ، وهو سب الرب جل وعلا ، لأن سب آلهة المشركين لا يكون مشروعا إلا إن كان محققا للمصلحة ودافعا للمفسدة , ومنها:- قوله تعالى ]يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ[ أي أن مفسدة صَدِّ المشركين عن سبيل الله، وكفرهم به، وصدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وإخراجهم منه، أكبر من مفسدة قتالهم في الشهر الحرام، فتحتمل أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما ، فلا بأس بالقتال في الشهر الحرام في تلك الظروف. وهذا مثال على تعارض المفاسد أو تزاحم المفاسد ، فإذا كان هناك محرمان لا يمكن تركهما جميعًا بل لابد من الوقوع في أحدهما، فيرتكب أقلهما إثمًا وأقلهما توكيدًا، فلا يقبل من شخص في مثل تلك الحالة أن يقول: قتال المشركين في الشهر الحرام محرم فلا يجوز أن نقاتلهم فيه مهما ترتب على ذلك من أمور، ويتجاهل المضار الناجمة من ترك قتالهم حتى لو كان ترك المقاتلة يؤدي إلى تمكين الكفر بالله والصد عن سبيل الله وإخراج المسلمين ومنعهم من التعبد في المسجد الحرام، وتلك بلا شك مضار عظيمة إذا ما قورنت بقتالهم في الشهر الحرام، لذا جاز للمسلمين ارتكاب المحظور الأصغر لدفع الخطر الأكبر، وهو ما يعرف بارتكاب أخف الضررين، وإنما يسمى محظورًا أو محرمًا باعتبار الأصل , ومنها :- قوله تعالى ] يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [ فشارب الخمر يتعدى على الآخرين بالضرب والشتم والقتل ويترك العبادة، وهي مفاسد عظيمة لا تقاومها المصالح المزعومة.فهذا مثال على تعارض المصلحة مع المفسدة ومراعاة الأغلب منهما، والمفسدة هنا أغلب، لذا نبههم الله جل وعلا إلى ذلك تمهيدًا لتحريمها ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها " يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم " قال ابن الزبير بكفر " لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون "(1) فانظر كيف ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على هذه الصفة المحبوبة له مراعاة لتحقيق المصالح ودفع المفاسد وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه) ومنها :- ما رواه البخاري عن أبي سعيد قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ " قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال " دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية "(1) وفي بعض طرق الحديث عند أحمد والطبري: فقال أصحابه: ألا نضرب عنقه؟ فقال " لا أريد أن يسمع المشركون أني أقتل أصحابي "(2) وأخرج مسلم قصة أخرى نحوها عن جابر رضي الله عنه وفيها: فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال " معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية "(3) وقد ترجم البخاري للحديث بقوله (باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس عنه) فهنا وجدت مصلحة وهي تأديب المارقين وردع المنافقين، ويقابلها مفسدة نفور الناس عن الدخول في الإسلام، وترويج الشائعات المنكرة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ودفع هذه المفسدة أولى من تحقيق المصلحة المشار إليها، بخلاف ما لو أمنت تلك المفسدة فحينئذ لا يترك تحقيق المصلحة المذكورة, ومنها :- ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ " من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة " قال: ألا أبشر الناس؟ قال " لا إني أخاف أن يتكلوا "(4) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا هريرة أن يبشر بذلك الناس فلقيه عمر فدفعه وقال: ارجع يا أبا هريرة، ودخل على أثره فقال: يا رسول الله لا تفعل؛ فإني أخشى أن يتكل الناس، فخلهم يعملون. فقال عليه الصلاة والسلام " فخلهم "(5) فتبليغ الناس بهذه البشارة وإدخال السرور عليهم بذلك مصلحة، واتكالهم على ذلك وعدم فهمهم وتركهم العمل مفسدة عظيمة، لذا اعتمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه عمر في ذلك وهذا من أكبر الأدلة على تقرير هذه القاعدة , ومنها :- ما رواه مسلم في صحيحه عن سعد أنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا وأنا جالس فيهم قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلاً لم يعطه وهو أعجبهم إليّ فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان والله إني لأراه مؤمنًا، قال " أوْ مسلمًا " فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنًا، قال " أوْ مسلمًا " فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنًا، قال " أوْ مسلمًا " قال " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه "(1) فانظر كيف ميز النبي صلى الله عليه وسلم بين الأفراد في العطاء ، وبين أن سبب هذا التمييز هو مراعاة المصالح والمفاسد ، ولكن لا بد وأن نقرر أن المصلحة المعتبرة هي ما اعتبره أهل العلم ، وليس الباب مفتوحا لأهل الأهواء وصغار الطلبة ، بل الأمر يحتاج إلى فهم أهل العلم الراسخين رحمهم الله تعالى ، ونضرب لك بعض الفروع لتوضيح المراد من تقرير هذه القاعدة فأقول وبالله تعالى التوفيق :-
الأول :- لقد قرر أهل السنة رحمهم الله تعالى وجوب طاعة الحاكم في غير معصية الله تعالى ، وأنه لا يجوز الخروج عليه ولا نزع اليد من الطاعة إلا إن رأينا كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان وغلب على الظن الانتصار عليه بلا مفاسد أكبر من المصالح المرجوة ، فهنا راعى أهل العلم مسالة المصالح والمفاسد فإنه ليس من الحكمة ولا من العقل أن نبعده إن كان يلزم من ذلك إراقة الدماء وضعف الدين وانتشار الفوضى في البلد ، وإخافة السبيل وتضييع الحقوق ، وغير ذلك من المفاسد ، بل بقاؤه خير للأمة من إبعاده والحالة هذه ، فنحن نرجو في إبعاده مصلحة ، لكن إن كانت مصلحة بقائه أكبر فالمشروع إبقاؤه ونحن نريد في تنحيته عن منصبه دفع مفسدة ، ولكن إن كان سيلزم منه مفسدة أكبر فالحكمة هو إبقاؤه في منصبه ، والمهم أن أهل السنة رحمهم الله تعالى نظروا إلى مسألة المصالح والمفاسد في مسألة الخروج على الحاكم وإبعاده عن منصبه ، فلا يجوز الخروج عليه إلا بهذين الشرطين :- أن نرى كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان ، وأن يغلب على ظننا عدم ترتب مفاسد أكبر من المصلحة المرجوة, والله أعلم .
الثاني :- لقد قرر أهل السنة رحمهم الله تعالى أن صلاة الجمعة والجماعة والحج والجهاد إن كان لا يقيمه إلا إمام المسلمين العام ، وكان فيه شيء من الفسق والفجور ، فإن الحق والواجب هو إقامة هذه الأمور خلفه ، بل قرر أهل السنة رحمهم الله تعالى أنه لا يتخلف عن الصلاة خلف إمام المسلمين في هذه الحالة إلا مبتدع ، ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته ، أو فاسق ظاهر الفسق ، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه ، كإمام الجمعة والعيدين ، والإمام في صلاة الحج بعرفة ، ونحو ذلك , فإن المأموم يصلي خلفه ، عند عامة السلف والخلف . ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر ، فهو مبتدع عند أكثر العلماء . والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون ، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف ، وكذلك أنس رضي الله عنه ، كما تقدم ، وكذلك عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان يشرب الخمر ، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً ، ثم قال : أزيدكم ؟! فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة!! وفي الصحيح : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص ، فسأل سائل عثمان : إنك إمام عامة ، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة ؟ فقال : يا ابن أخي ، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم . وذلك لأن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، بحسب الإمكان . فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الإقتداء فيهما بالإمام الفاجر ، لاسيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً ، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة .
الثالث :- المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه ليس كل ما يعلم يقال ، ولكل مقام مقال وأن من الحكمة السكوت عن بعض العلم إن كانت المصلحة في السكوت عنه ، فليس كل شيء تعلمه لابد من أن تقوله ، لا ، بل لا يدفعنك للكلام إلا المصلحة ، ولا يدفعك للسكوت إلا جلب المصلحة أو دفع المفسدة ، فليس العالم بوقا ينطق بما يريده الناس أو يشفي غيظ قلوبهم ، أو بما يهوونه حتى تكون الحظوة عندهم ، لا ، من قام في قلبه ذلك فليس بعالم وإن لبس مسوح العلماء فتبليغ العلم لا بد وأن يؤخذ مقرونا بهذه القاعدة ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه نهى معاذا عن التحديث بالحديث وفيه " وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا " وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول:- حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم ، أما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم . رواه البخاري ، فكان من الحكمة في حقه أن لا يحدث بهذا النوع من العلم ، لما فيه من المفسدة الكبيرة المترتبة على الكلام فيه ، وهذا الفعل من أبي هريرة رضي الله عنه من باب تحقيق المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، والله أعلم .
الرابع :- لا جرم أن الأدلة وردت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصوص فيه كثيرة وأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه يراد تحقيق المصالح ودفع المفاسد ، فإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمان من الأزمنة أو مكان من الأمكنة يلزم منه ترتب مفسدة أكبر من المفسدة التي نرجو زوالها ، فالحكمة والمشروع الآن هو عدم الإنكار ، لأننا إنما نريد أن نتلف مفسدة ونحيي مصلحة ، وفي تجويز الإنكار في هذه الحالة قلب الأمر ، فبما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة المعينة يفضي إلى مفاسد أكبر وأعظم فالحق أنه لا يجوز استعماله ، هكذا قرر أهل العلم رحمهم الله تعالى .وما ذلك إلا لأن الدين مبني على جلب المصالح ودفع المفاسد ، والله أعلم
الخامس :- ما قرره الفقهاء من أن السنة ترك السنة إن كانت الترك لمصلحة التأليف ، وهذا أمر مهم لا بد وأن يفهمه الدعاة ، فإن كان الإنسان بين ظهراني دولة تدين بمذهب معين , وهو قادم للدعوة أصلا ، وكان أفراد تلك الدولة لا يسمعون لمن يخالفهم في المذهب ، وكنت أنت ترى أن من السنة كذا وكذا مما لا يراه أهل هذه الدولة ، فالذي نراه في حقك أن تترك هذه السنة من باب مصلحة التأليف فإن مصلحة التأليف واستماع الدعوة ، أولى مراعاة من مجرد مصلحة فعل هذه السنة ، وعلى ذلك فالأولى الجهر بالبسملة أحيانا لمصلحة التأليف ، لاسيما في البلاد التي ترى أنها آية من الفاتحة ، والأولى ترك القنوت في الوتر أحيانا لمصلحة التأليف , والأولى ترك ضم اليدين أحيانا على الصدر لمصلحة التأليف ، والأولى ترك الجهر بالتأمين أحيانا لمصلحة التأليف وهكذا ، وما ذلك إلا لأن مراعاة مصلحة تأليف القلوب واتحاد الصف ، وعدم الخلاف والفرقة أولى من مراعاة فعل هذه السنة ، لأن الشريعة جاءت بتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها . والله أعلم .
السادس:- ما قرره الفقهاء رحمهم الله تعالى من أن السنة إذا أدى فعلها إلى مفسدة فإن المشروع تركها وما ذلك إلا لأن دفع المفاسد أولى من جلب المصالح ، كما في سنن الحج مثلا ، فتقبيل الحجر الأسود إن أدى إلى الوقوع في المحرم من المسابة والمشاتمة والمدافعة التي تفضي إلى إيذاء عباد الله ، فإن كان تقبيل الحجر يؤدي إلى هذا ، فالمشروع تركه ، وكذلك الصلاة خلف مقام إبراهيم - أعني ركعتي الطواف - فإن كان فعلها في هذا المحل يفض إلى مفسدة كمزاحمة الناس في الطواف المزاحمة الشديدة ، وإيذاء عباد الله تعالى فالمشروع تركها ، والصلاة في أي بقعة من الحرم ، وكالرمل في الطواف ، فإن كان يفضي إلى الاصطدام بالناس والدفع في أعجازهم فاتركه ، وغيرها من الأمثلة كثير ، ودونك هذا الضابط الذي يقول ( كل سنة في الحج أدى فعلها إلى مفسدة فالمشروع تركها ) والله أعلم .
السابع :- ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله من تخول الصحابة رضي الله عنهم بالموعظة كراهية السآمة عليهم ، فلا ينبغي الإكثار على الناس بالموعظة حتى يصل بهم الواعظ إلى الملل ، بل عليه مراعاة المصلحة في الموعظة ، ففي الحديث " كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا "وهو في الصحيح ، قال النووي رحمه الله تعالى (اعلم أنه يُستحبّ لمن وعظَ جماعةً أو ألقى عليهم عِلْماً أن يقتصدَ في ذلك ولا يُطوِّل تطويلاً يُمِلُّهم، لئلا يَضجروا وتذهبَ حلاوتُه وجلالتُه من قلوبهم، ولئلا يَكْرَهُوا العلمَ وسماعَ الخير فيقعُوا في المحذور ) وروى مسلم في الصحيح عن عمّار بن ياسر رضي اللّه عنهما قال : سمعتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول " إن طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فأطِيلوا الصَّلاةَ واقْصِرُوا الخُطْبَةَ "(1) وعن عكرمة أن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة مرة فإن أبيت فمرتين فإن أكثرت فثلاث مرات ولا تمل الناس هذا القرآن ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه لا يفعلون ذلك " رواه البخاري ، وقال الزهري (إذا طالَ المَجلسُ كانَ للشيطان فيه نصيب ) والله أعلم .
الثامن :- لقد اختلفت أنظار أهل العلم في الواعظ والمدرس يقوم بعد الصلاة مباشرة ليلقي درسه أو موعظته ، وبقي طائفة من المصلين تقضي ما فاتها من الصلاة ، أو كان هناك جماعة ثانية ، مع أنه من المعلوم أن المدرس والواعظ سيلقي الدرس بصوت مرتفع ، مما قد يوجب التشويش على المصلين ، فهل يقدم الدرس ، أو يقدم غيره ؟ والأقرب عندي والله أعلم أنه لا حرج عليه في إلقاء موعظته ودرسه فهاهنا مصلحتان تعارضتا، مصلحة صلاة الجماعة الثانية ومصلحة إلقاء الدرس أو التنبيه على شيء من مهمات الدين، ولا شك أن مصلحة الدرس أعم وأنفع غالبًا، وبإمكان المتأخرين الصلاة خارج المسجد أو تأخير الصلاة لحين الفراغ من الدرس ما لم يتضايق وقت الفريضة، ولو أمكن الجمع بين الأمرين كان أفضل، كأن تتأخر الجماعة الثانية أو ينتظر المدرس أو الواعظ حتى يفرغوا، ولكن لما كان الغالب أن الناس لا يصبرون بل يخرجون سراعًا من المسجد، وأن الجماعات قد تكثر بعد الصلاة الأولى كان إلقاء الدرس أولى.هذا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يعظ الناس بعد الفراغ مباشرة من الصلاة وقد يوجد المسبوق الذي يقوم لإكمال صلاته ونحوه، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظرهم حتى يفرغوا.روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال " أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي ومن خلفي " ثم قال " والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا " قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال "رأيت الجنة والنار"(1) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقل ما يريد التنبيه عليه ، من غير نظر لمن فاتته الصلاة ، وهذا فيه دليل على رجحان ما ذكرته ، والله أعلم والأحاديث التي تدل على وعظه وتدريسه عقب الصلاة مباشرة كثيرة والحمد لله.والله أعلم .
التاسع :- ترك قتل المنافقين فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم المنافقين بأعيانهم وأخبر بهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مع ذلك لم يتعرض لهم بقتل ، وذلك كله خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه فيكون هذا الكلام منفرًا للناس عن الدين ، فهنا مفسدتان ومصلحتان : فالمفسدة الأولى : افتتان الناس عن الإسلام ونفورهم منه . والثانية : الإبقاء على المنافقين وترك قتلهم مع أنهم يستحقون القتل لكفرهم في الباطن ، لكن المفسدة الأولى أشد وقعًا فروعيت بارتكاب المفسدة الصغرى دفعًا لكبرى المفسدتين بارتكاب أدناهما . وأما المصلحتان : فالأولى : تأليف الناس على الإسلام وهي المصلحة الكبرى . والثانية : إراحة الإسلام والمسلمين من المنافقين ودفع شرهم وأذاهم بقتلهم وهي الصغرى فروعيت المصلحة الكبرى بتفويت المصلحة الصغرى ، والله أعلم .
العاشر :- أحيانا تكون المصلحة في أن لا ترد على أهل البدع ، ولا أن تنظر لهم بعين الاعتبار وأن تحتقرهم بالسكوت وصرف النظر عن كلامهم ، لاسيما إن كان الكلام فيما يخصك أنت في ذاتك فأنا أرى والله أعلم أن السكوت عن من نالك بالأذى في كثير الأحيان أولى وأحسن ، فإن الفتنة نار وكثرة الكلام والجدال فيها مما يزيد لهيبها ، فالرد على أهل البدع وغيرهم من المخالفين , من عدم الرد عليهم لابد وأن يراعى فيه جانب تحقيق المصالح ودفع المفاسد وليتني أصبر عن من تكلم فيني لكان في ذلك خير كثير ، ولكنني قليل الصبر في هذه المسألة جدا أسأله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لحسن القول والعمل ، وأن يفقهنا في ديننا وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا ، والله تعالى أعلى وأعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(1) حديث صحيح , رواه البخاري في كتاب الحج .
(1) حديث صحيح رواه البخاري "باب من ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه" ورواه مسلم , والألباني ,جميعهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (20451) والطبري من طريق بلال بن بقطر عن أبي بكرة .
(3) حديث صحيح , أخرجه أحمد (3/353، رقم 14846) ، ومسلم (2/740، رقم 1063) ، والطبراني (2/185، رقم 1753) . وأخرجه أيضًا: النسائي في الكبرى (5/31، رقم 8087) ، وابن حبان (11/رقم 4819) .
(4) رواه البخاري باب "من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا" ورواه الإمام أحمد في مسنده .
(5) حديث صحيح , رواه مسلم في صحيحه برقم (31) وأخرجه أيضًا: أبو عوانة برقم (17) ، وابن حبان برقم (4543) .
(1) رواه البخاري 3 / 270 في الزكاة ، باب قول الله تعالى {لا يسألون الناس إلحافاً} ، وفي الإيمان ، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل ، ومسلم رقم (150) في الإيمان ، باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه ، وأبو داود رقم (4683) و (4684) و (4685) في السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه ، والنسائي 8 / 103 و 104 في الإيمان ، باب تأويل قوله عز وجل {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} .
(1) إسناده صحيح , رجاله ثقات رجال الصحيح، غير قريش بن إبراهيم - وهو البغدادي- فمن رجال "التعجيل" وأخرجه الدارمي (1556) ، ومسلم (869) ، والبزار في "مسنده" (1406) ، وأبو يعلى (1642) ، وابن خزيمة (1782) ، وابن حبان (2791) ، والبيهقي 3/208 ، والحاكم 3/393 وقال : صحيح على شرط الشيخين .
(1) رواه مسلم رقم (426) في الصلاة ، باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ، والنسائي 3 / 83 في السهو ، باب النهي عن مبادرة الإمام بالانصراف من الصلاة .
التعليقات