القاعدة الخمسون :- اغتنام الفرص الملائمة للدعوة دليل على حكمة الداعية وحرصه وكمال عقله .
أقول :- إن الداعية الموفق هو من جعل الدعوة هماً من جملة الهموم التي يحملها بين جنبيه ، وهذا الهم إن صدق الداعية في حمله فإنه لا بد لزاما أن يكثر تفكيره فيه ، ومع كثرة التفكير فيه فلا بد وأن يهتبل كل فرصة تمكنه من تحقيقه في واقع الناس ، وإن الفرص الدعوية كثيرة ، ولله الحمد ، فلا بد من اغتنامها وعدم تفويتها ، ونعني بهذه الفرص أي الأحوال التي تقبل فيها قلوب الناس على الخير ويضعف فيها داعي الشر ، ويتأهب الناس فيها لسماع الحق ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على اغتنام مثل هذه الفرص ، فإن لها من الآثار الحميدة على الفرد والمجتمع ما قد لا يكون في حسبان الداعية ، بل إن المصلح الإيجابي يتجاوز مجرد اغتنام الفرص التي تتاح له ليبحث عنها ويفتش، وهاهو صلى الله عليه وسلم في سيرته يغتنم فرص اجتماع قومه ليدعوهم، ويبحث عن فرص أخرى ليدعو غيرهم، فقد كان يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنَّة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة , وحين لا يجد المصلح فرصة سانحة أمامه ويفتش يمنة ويسرة ؛ فإنه يسعى لأن يوجد الفرصة ؛ فالحاجة أم الاختراع ، ولن تعجز عقول المصلحين عن أن تهيئ الفرص وتوجدها ، فها هم صناع السلاح والمتاجرون به حين تكسد سوقه يفتعلون المعارك والحروب ويؤججون نارها ليروجوا بضاعتهم، وهاهم أصحاب رؤوس الأموال يُغرقون الناس بالدعاية لمنتجاتهم حتى يوجدوا فرص تسويقها.وقديمًا كان الصياد حين لا تتاح له فرصة اجتماع الطير يلقي له طُعمًا حتى يجتمع فيصيد , والمصلحون الإيجابيون لا يقف جهدهم عند ذلك فحسب، بل هم يبحثون في المواقف السيئة، ومن بين الصور المظلمة يبحثون عن النور والضياء، إنهم حين تحل المحن والنكبات وحين يتشاءم الناس مما أمامهم يتلمسون الصور المشرقة، ويبحثون عن الثغرات ليستثمروا الواقع الجديد حين يقع الابن في معصية أو مصيبة؛ يستثمرها والده العاقل لتكون منطلقًا لنصحه وإصلاحه.ومهما كانت الأحوال سيئة ومظلمة؛ فالأوضاع الجديدة تحمل في طياتها العديد من الفرص التي يمكن أن يستثمرها العقلاء، ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذكر الله في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبه في السجن إذ يقول ] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [ فهذان السجينان رأى كل واحد منهما رؤيا، وهي رؤيا غريبة تستدعي الاهتمام لذلك بحثًا عن معبر لها، ولم يختارا غير يوسف الصديق، وكان الذي حملهما على اختياره دون غيره هو ما رأياه عليه من حسن السلوك، والإحسان في القول والعمل، وما على وجهه من آثار الصلاح يدل على ذلك كله قوله ] إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [ وحينما رأى يوسف عليه السلام حاجاتهما الماسة لتعبير هذه الرؤيا العجيبة، ورأى كذلك من حسن ظنهما فيه؛ اغتنم هذه الفرصة لدعوتهم إلى الله، وكان من حكمته عليه السلام أن يبدأ قبل دعوتهما إلى الله، وقبل تفسير الرؤيا لهما بزيادة تعريفها بنفسه، وتشويقهما إلى حديثه، وبيان نعمة الله على أهل التوحيد، فقال ]قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي[ ثم بين لهما أن الشرك بالله سبب لكل شر، وأن توحيد الله سبب لكل خير، فقال ]... إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وأتبعت ملة وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [ ثم بعد كل هذه التمهيدات العظيمة جرد الدعوة إلى التوحيد فقال ] يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [ وبعد إقامة هذه الحجة على هذه الدعوة العظيمة، فسّر لكل واحد من صاحبي سجنه رؤياه في عبارة موجزة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض , فقال ] يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه اغتنم فرصة الدفن في كثير من الأحيان للدعوة إلى الله تعالى والتزهيد في هذه الحياة الدنيا ، كما في حديث البراء بن عازب وغيره ، وهذا من الاغتنام الطيب ، فإن القلوب مع رؤية الموت ومعاينة القبر مقبلة على الخير وقبول الحق ، فإن فعل هذا أحيانا فلا حرج ولكن لا يكون أمرا راتبا ، ومن اغتنام الفرص أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المرأة في السبي تبحث عن طفل لها ، فلما وجدته أخذته في حضنها وألقمته ثديها ، قال عليه الصلاة والسلام "أتظنون أن هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر أن لا تطرحه ؟" قالوا : لا يا رسول الله ، فقال " لله أرحم بعباده من هذه بولدها " أو كما قال ، المهم أنه اغتنم الفرصة ببيان هذا النوع من العلم ، وكذلك لما تضاحك بعض الصحابة من دقة ساق ابن مسعود اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة لنقلهم إلى أن الأمر ليس بظاهره وإنما بحقيقته ونفعه للأمة ، فقال " والذي نفسي إنها لأثقل في الميزان من جبل أحد" ولما أهدي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم حرير فجعل الصحابة يعجبون من لينه ، اغتنم الفرصة وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم " لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا "(1) فالداعية الموفق هو من يترقب الفرص ويسعى إليها ولا ينتظر مجيئها إليه ، يباغت المواقف ولا يكون هو رد فعل لها ، لا يترك فرصة لما يسميه الناس الصدف أو الفجأة ، بل تراه بدهيا مستعدا لكل موقف بما يناسبه ولما لقط ابن عباس للنبي صلى الله عليه وسلم حصا الجمار ، والناس ينظرون لهذا الحصا وجدها النبي صلى الله عليه وسلم فرصة للأمر بالاعتدال والتحذير من الغلو ، فقال " بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " وفي حديث ابن عباس في قصة صاحبي القبرين استغلال للفرصة في التحذير من بعض الأعمال الموجبة لعذاب القبر ، من التهاون في أمر الطهارة ، والتهاون بأمر النميمة وفي قصة الشباب الذين أتوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وسألوا أزواجه عن عبادته في بيته فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها - والحديث معروف - المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من هذه الحادثة فرصة مواتية لنشر منهج الوسطية والاعتدال في التعبد والعمل ، والحث عليه والترهيب من مخالفته والتنكب عن صراطه المستقيم ، ولذلك لم يصحح النبي صلى الله عليه وسلم الخطأ لهم فقط ، بل صعد على المنبر وحمد الله وأثنى عليه ، لأنها خطأ في المنهج ، وبدأ يصحح الأمور على منهج الوسطية علنا أمام الناس ، وبالجملة فالأدلة على اغتنام الفرص للدعوة إلى الله تعالى لا تكاد تحصر ، ومن باب التطبيق العملي لهذه القاعدة نقول :-
من الفرص الدعوية :- استغلال مواسم الاجتماع في رمضان ، في صلاة التراويح ، فإن إقبال القلوب في هذا الشهر لا يكاد يخفى على أحد ، فلا بد من ترتيب المحاضرات والمواعظ في هذا الشهر واستغلاله الاستغلال الطيب ، في الأمر بالتوبة والصدقة والدعوة إلى نبذ المخالفات والمعاصي .
ومنها :- استغلال العزاء في الدعوة إلى الله تعالى بالموعظة الحسنة والتذكير بالموت وأنه نهاية الحياة وانقطاع الأعمال ، وقد جربنا الدعوة في العزاء فوجدنا فيها من الثمرات المباركة الزكية ما لم يكن في الحسبان .
ومنها :- إقامة لقاء دوري بين جماعة المسجد للتعارف ولمناقشة ما يحتاجه الحي ( كإصلاح المسجد أو متابعة الجيران، أو لمعالجة المنكرات الموجودة بالحي، أو للتباحث بما يفيد الجماعة كعنوان خطبة الجمعة ) ويستحسن دعوة أهل العلم المعروفين بين فترة وأخرى للتباحث معهم وإثراء اللقاء.
ومنها :- استغلال مواسم العطل الصيفية في ترتيب الدورات العلمية والمحاضرات ، والمسابقات الهادفة وإحياء دور المراكز الصيفية بما يعود على الأمة نفعه في العاجل والآجل .
ومنها :- استغلال النشاط المدرسي والإرشاد الطلابي في نشر الخير والدعوة إلى معالي الأمور وإحياء روح التنافس الهادف بين طلاب المدرسة .
ومنها :- تعاون طلبة العلم مع الخطباء في البلد في طرح الموضوعات المهمة في البلد، وإصلاح واقع الناس ، والكلام عن مشكلاتهم مع بيان سبل الحلول الشرعية النافعة .
ومنها :- التعاون مع المؤسسات الخيرية في توزيع الصدقات ووجبات الإفطار في رمضان .
ومنها :- استغلال فترة نزول بعض البلاء العام بالناس من الأوبئة أو القحط العام أو بعض الكوارث التي يقدرها الله تعالى على بلد من هبوب الرياح المدمرة أو البراكين الحارقة أو الزلازل المهلكة، فإن هذه الأوقات من أنفع الأوقات في الدعوة إلى الله تعالى وتذكير الناس بأن ما أصابهم إنما هو بما كسبت أيديهم ، وأنه لا مخرج لهم من هذا البلاء إلا بالتوبة الصادقة والإقلاع عن الذنوب والرجوع إلى الله تعالى وصدق اللجأ إليه سبحانه .
ومنها :- استغلال جانب الرقية على المرضى في الدعوة إلى الله تعالى ، وقد دخلت في هذا المجال فوجدت أن المريض يقبل على الراقي بقضه وقضيضه ، ولا يكون هم الراقي مجرد المكسب المادي ، بل ليكن همه كيف يكسب قلب المريض حتى يوجهه إلى قوافل العائدين إلى الله تعالى ، فجانب الرقية من أعظم الفرض للدعوة إلى الله تعالى .
ومنها :- استغلال جانب تفسير الرؤى والأحلام في الدعوة إلى الله تعالى ، فإن الناس ينظرون إلى المعبر نظرة احترام وتقدير لا تكاد توصف، فما إن يدعوهم إلى الله تعالى ويحذرهم من مغبة الذنوب والمعاصي إلا وتجد أن القلوب قد انصاعت له وسالت بين يديه ، ويحدثنا بعض المعبرين في هذا المجال بما لا ينقضي منه العجب من سرعة الاستجابة لهم فيما يدعون له .
ومنها :- استغلال زمن الحج واجتماع الناس من كل حدب وصوب ، فوالله إن هذا الاجتماع العظيم من أعظم ما ينبغي استغلاله في الدعوة إلى الله تعالى ، لا سيما وأنك تلتقي مع من لا تقدر على اللقاء به في غير هذه المواسم ، والقلوب في هذه المشاعر فيها من الخضوع والإقبال والتضرع ما لا يجد الشيطان معه سبيلا في الترغيب في الشر ، فالله الله أيها الدعاة في هذا الموسم العظيم ، والله المستعان .
ومنها :- استغلال اجتماع الأسر في أيام العيد ، وذلك بحسن الترتيب والإعداد والجمع بين الأخذ بالجد والحزم والترفيه والتشويق الهادف ، وكم من الأسر التي استفادت من هذه الاجتماعات في صلاح أبنائها وبناتها وإقبال الأسرة كلها على الخير ، فالله الله بحسن الإعداد لها .
ومنها :- اغتنام أوقات الفراغ والأمن بكثرة الذكر والنصب في التعبد وحفظ المتون العلمية ومراجعة المحفوظات السابقة ، والتأليف في المسائل النافعة ، وجمع المادة العلمية التي يعود نفعها على الأمة والإقبال على قراءة الكتب النافعة .
ومنها :- اغتنام أوقات الشباب والقوة والعافية في التعبد والدعوة والإكثار من فعل الخيرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون مع إخوانك الدعاة على البر والتقوى والسعي في أن تضرب لك في كل باب من أبواب الخير بسهم ، حتى إذا حلت بك الأمراض وصرفتك الأشغال وحل عليك زمن الضعف لا تلوم نفسك على التفريط والتواني زمن القوة والنشاط ، وفي الحديث "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" وبالجملة فلا أدري بأي شيء أبدأ ، وذلك - ولله الحمد - لكثرة الفرص وتنوعها ، فالله الله أيها الدعاة الموفقون باغتنامها واستغلالها فيما يعود على الأمة نفعه في عاجل أمرها وآجله ، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
(1) حديث صحيح , أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/435، والبخاري (5836)
التعليقات