القاعدة الثالثة عشرة :- أثر الدعوة تراكمي مستقبلي .
أيها الداعية المبارك :- إن الإنسان قد خلق من عجل ، كما قال تعالى ] خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [ وقال تعالى ] وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً [ والداعية لا بد وأن يخالف مقتضى هذه الفطرة ، لاسيما في مسألة نتائج الدعوة ، فإن النتائج لا تأتي في الأعم الأغلب دفعة واحدة ، بل المعروف بالتجربة واستقراء التاريخ أن أثر الدعوة تراكمي ، أي يأتي رويدا رويدا ، ويجتمع شيئا فشيئا ، ويتضح تباعا ، ومستقبلي أي لا ينظر الداعية إلى النتائج في حاضره ، بل الأعلم الأغلب أن آثار الدعوة تكون مستقبلية ، بل ولربما لا يدركها الداعية في حياته ، فالأمر يفتقر إلى الصبر والحلم ، فالعجلة في تحصيل النتائج من أخطر ما يواجه الداعية ، لأن مراعاة العجلة فيها يوجب له الانقطاع عند عدمها ، أي عند عدم رؤية النتائج ، فعلى الداعية أن يقنع نفسه ويقرر في نفسه ويذكر نفسه دائما بين الفينة والأخرى أن آثار دعوته إنما تكون تراكمية مستقبلية ، فإن هذا مما يطمئن قلبه ، ويريح نفسه ، ويبرد حرقة قلبه عند تأخر نتائج دعوته ، وهو مما يبعث الأمل في النفوس ، ويطرد اليأس من القلوب ، بل وهو مما يحمي الداعية من اتهام الناس وإساءة الظن بهم ، ففي حديث الرجل الذي قال لرجل كثر نصحه له ولم يزدجر ، فقال له " والله لا يغفر الله لك " وهذا القول مبني على الاستعجال في النتيجة ، فقال الله تعالى " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لعبد من عبيدي ، قد غفرت له ، وأحبطت عملك " قال الرواي :- لقد قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته(1) . وفي الحديث لما فعل أهل الطائف بالنبي صلى الله عليه وسلم ما فعلوا وجاءه ملك الجبال وقال " إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين " أبى ذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال " بل استأن بهم ، لعل الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا "(2) والحديث في الصحيح ، وهذا من باب العلم الكامل بأن أثر الدعوة تراكمي مستقبلي ، فمقتضى هذه القاعدة العريقة الطيبة إن قام في قلب الداعية فهو من أعظم ما يبعث الأمل في قلبه ، وما دام الأمل موجودا في قلب الداعية فإنه لا يزال مستمرا في دعوته ، ولكن متى ما انقطع الأمل في الناس فالتوقف عن الدعوة هو المصير ولا بد ، والانقطاع عن الدعوة الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة وفهم السلف من المصائب الكبيرة على الأمة ، فما دام الداعية يسير على درب واضح المعالم وصحيح التأصيل فلا يضره تأخر النتائج ، لأن الأمر إلى الله تعالى من قبل ومن بعد ، فعلى الداعية الصبر وعدم الضجر واستعجال النتائج لاسيما وإن مشروعا ضخما كمشروع المنهج السلفي يحتاج إلى جهد ومثابرة ومكابدة وطول زمان، والاستعجال يقوض العمل ويفسد النتائج، فالزلل يلازم المستعجل، لكن لا بد وأن ننبه على أن عدم الاستعجال لا يعني التراخي والكسل، بل الجد والاجتهاد والحرص كلها أمور مطلوبة في ترسيخ هذا المشروع الكبير، وقد قال نوح عليه السلام ] إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً [ وقال ] ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [ مما يبين حرصه الشديد وجهده المتواصل، وكذلك الأنبياء من بعده، وعلى رأسهم سيد البشر صلى الله عليه وسلم فلم يستعجل إذ ظل يدعو في مكة ثلاثة عشر عاما من غير استعجال النتائج، ولكن مع الجد والاجتهاد في الدعوة حيث كان يلقى الناس في المواسم ويعرض عليهم دعوته، كما خرج من مكة إلى الطائف يدعو إلى ربه، فلم يكن عدم الاستعجال مدعاة للتواني أو الخمول، وكان صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه إلى عدم الاستعجال، فعندما قال له خباب رضي الله تعالى عنه وهم يُضيق عليهم في مكة :ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا, قال لهم بعدما ذكر ما كان يلاقيه المسلمون السابقون من أقوامهم " والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون "(1) إن استعجال النتائج في الدعوة من قصر نظر الداعي فربما نحكم على الناس أن لا أمل فيهم، وربما نستعجل على أنفسنا قبل النضوج والرسوخ في المسألة المبحوثة والمطروحة وربما يكون الاستعجال بمحاولة القيام بردود فعل تجاه المحاربين للدعوة ، والله عز وجل يقول ] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [ قال عمرو بن العاص (لا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة) فنتائج الدعوة تراكمية مستقبلية ، وإن من الدعاة من إذا بدأ في دعوته فإنه يرسم منهجًا جيدًا يسير من خلاله لتحقيق أهدافه، ولكن إذا مضى زمن ولم يتحقق شيء من ذلك، أو تحقق شيء يرى أنه لا يساوي الجهود المبذولة، فيقوم بتعديل منهجه السليم إلى منهج خاطئ يستعجل فيه الثمار، وذلك ناتج عن تصوره الخاطئ في فهم حقيقة ما يجب عليه، وإنه إذا لم تتحقق أهدافه فإنه لم يقم بما أوجبه الله عليه، غافلا عن الفرق بين الأمرين، أو جاهلا لذلك ، وأنت خبير بأن البلاد التي كثرت فيها المنكرات وتعددت فيها الشهوات وتربى الكثير عليها حتى صارت هي ديدنهم وهجيراهم ، فإنه لا بد فيها سعة البال وعدم الاستعجال، وطول النفس في التربية ، فبيت وبلاد عشعش المنكر فيها لسنوات عديدة، وصفات تطبعت بها النفوس لأعوام مديدة، يصبح من العسير أن تزول جملة واحدة في يوم وليلة.فلا بد من التدرج في التغيير، والبدء بالأهم فالمهم، وعدم استعجال النتائج، فطريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة ومن سار على الدرب وصل، ومن أدام قرع الباب يوشك أن يفتح له ، فالحذر الحذر من اليأس أو استعجال النتائج، وضرورة التأني وبعد النظر، وهذا الأمر يغفُل عنه كثير من الدعاة؛ فنجد أحدهم يتعجل النتائج، ويستغرب بطء استجابة الناس، وينسى قول الله تعالى ] وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [ فيجب على الداعية أن يكون حكيماً، ولا يغفل عما أحدثته وسائل الهدم في عقول الناس وأفكارهم، وأن ذلك قد استغرق وقتاً طويلاً، فلا نستغرب أن نحتاج إلى وقت مناسب لإعادتهم إلى طريق الهداية ، ولنعلم أن الكلمة الطيبة تؤتي ثمارها ونتائجها ولو بعد حين ، والله المستعان على تلك النفوس الضعيفة العجولة ، فإن من الناس من يظن نفسه من أكبر الدعاة وأعظم الدعاة فيريد أن يرى آثار دعوته من أول يوم في دعوته ، أو في أوائل دعوته ، وهذا أمر إن استمر مع الداعية فمآله للانقطاع ، فالله الله أيها الأحباب بهذه القاعدة ، وبتذكير النفس بها بين الفينة والأخرى ، فقد وجدنا في أقناع النفوس بها راحة كبيرة وفي قلوبنا اطمئنانا عظيما وثقة بالله تعالى وحسن ظن به ، فالحمد لله على هذه الهداية ،والله أعلم ، وصلى الله علة نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
(1) أخرجه أبو داود رقم (4901) في الأدب ، باب في النهي عن البغي ، ورواه أيضاً أحمد في " المسند " 2 / 323 و 363 ، وإسناده حسن
(2) رواه البخاري 6 / 224 و 225 في بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة ، وفي التوحيد ، باب {وكان الله سميعاً بصيراً} ، ومسلم رقم (1795) في الجهاد ، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين , والنسائي في تحفة الأشراف .
(1) إسناده صحيح على شرط الشيخين , أخرجه البخاري (3612) و (6943) ، والنسائي 8/204، وابن حبان (6698) ، والطبراني (3638) ، والبيهقي في "الدلائل" 6/315 من طريق يحيى اَبن سعيد، بهذا الإسناد.
التعليقات