القاعدة الثانية عشرة :- البدء بالأهم فالمهم مبدأ رئيس في سلامة الدعوة من التناقض والخلل .
أقول :- وهذا من فقه الدعوة ، ومعناه واضح ومتقرر في العقول والفطر السليمة ،وقد ورد الشرع بإثباته وتقريره في مواضع كثيرة ، والأصل فيها حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال "إنك تقدم على قومٍ أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلواتٍ في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم وترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب"(1) قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى (لا ريب أن المرشدين هم أطباء المجتمع , ومن شأن الطبيب أن يهتم بمعرفة الأدواء ثم يعمل على علاجها بادئا بالأهم فالأهم, وهذه طريقة أنصح الأطباء وأعلمهم بالله وأقومهم بحقه وحق عباده, سيد ولد آدم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم فإنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بدأ بالنهي عن أعظم أدواء المجتمع وهو الشرك بالله سبحانه, فلم يزل صلى الله عليه وسلم من حين بعثه الله يحذر الأمة من الشرك ويدعوهم إلى التوحيد إلى أن مضى عليه عشر سنين, ثم أمر بالصلاة, ثم ببقية الشرائع , وهكذا الدعاة بعده: عليهم أن يسلكوا سبيله وأن يقتفوا أثره, بادئين بالأهم فالأهم ولكن إذا كان المجتمع مسلما ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره, بل يجب عليه ذلك حسب طاقته; لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله, وتطهير أخلاقه مما يضر المجتمع ويضعف إيمانه. ولا مانع من بداءته بعض الأوقات بغير الأهم, إذا لم يتيسر الكلام في الأهم ولا مانع أيضا من اشتغاله بالأهم وإعراضه عن غير الأهم, إذا رأى المصلحة في ذلك وخاف إن هو اشتغل بهما جميعا أن يخفق فيهما جميعا, وهكذا شأن المصلحين والأطباء المبرزين, يهتمون بطرق الإصلاح ويسلكون أنجعها وأقربها إلى النتيجة المرضية, وإذا لم يستطيعوا تحصيل المصلحتين أو المصالح, أو تعطيل المفسدتين, اهتموا بالأهم من ذلك واشتغلوا به دون غيره, ومن تأمل قواعد الشرع وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام, وسيرة خلفائه الراشدين والأئمة الصالحين, علم ما ذكرته, وعرف كيف يقوم بإرشاد الناس, وكيف ينتشلهم من أدوائهم إلى شاطئ السلامة, ومن صحت نيته وبذل وسعه في معرفة الحق وطلب من مولاه الهداية إلى خير الطرق, وأنجعها في الدعوة, واستشار أهل العلم والتجارب فيما أشكل عليه, فاز بالنجاح وهدي إلى الصواب, كم قال سبحانه ] وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [ )ا.هــ كلامه رحمه الله تعالى . وقال رحمه الله تعالى ( الواجب على الدعاة إلى الله من الخطباء وغيرهم وعلى الأمراء والحكام الصبر في ذلك مع القيام بالواجب قولا وعملا , والبدء بالأهم فالأهم والعناية بما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم , والتحذير مما انتشر بينهم من المنكرات والدعوة إلى تركها والتحذير منها ) وسئل رحمه الله تعالى بما نصه ، قال السائل :- الإنسان قد يترك بعض السنن والمستحبات أمام بعض الناس يتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم , أو يترك الإنكار عليهم في بعض المكروهات , حتى يتألفهم , فما رأي سماحتكم ؟ فأجاب رحمه الله تعالى بقوله ( ليس الأمر خاصا بالمكروهات بل حتى بعض المعاصي يتركها . مثل إنسان يتعاطى أشياء دون أشياء فإنه يبدأ بالأهم فالأهم , مثل : إنسان لا يصلي وهو عاق لوالديه , أو متهم بالخمر , أو بشيء آخر من المعاصي , فعلى الناصح أن يبدأ بالصلاة ويوضح له عظم مكانتها وأن تركها كفر , فإذا صلى أنكر عليه الناصح المنكرات الأخرى إذا رأى المصلحة في ذلك , وإن رأى أن إنكار الجميع عليه لا يؤثر في المقصود ورجا أن يهديه الله في الجميع فلا بأس بذلك; لقول الله سبحانه ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [ ولهذا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للإسلام وترك الشرك قبل إنكار المنكرات التي هم عليها مما دون الشرك ) وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في فوائد ومسائل حديث ابن عباس المذكور آنفا ، قال ( الثانية عشرة :- البداءة بالأهم فالأهم ) وهذا هو منهج الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، فإنهم ما كانوا يبدءون أممهم بغير أهم مسائل الدعوة ، وهو تقرير التوحيد وقضايا التوحيد حتى إذا استقرت أمور التوحيد سليمة في قلوب المدعوين ، جاء بعده تقرير بقية مسائل التشريع ، ولذلك فإن كثيرا من شرائع الملة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم لم تقرر إلا بعد الهجرة إلى المدينة ، وأما في العهد المكي فقد كان الاهتمام منصبا على تقرير مسائل التوحيد ، على مدار ثلاث عشرة سنة من عمر النبوة ، بل هذا هو مقتضى العقل ، فإنه ليس من الحكمة أن تنصب الجهود على معالجة الأمور الصغيرة ، مع اقتراف المدعو الأمور الكبيرة من موبقات الإثم وعظائم العصيان ، وليس من الحكمة أن ندعو الناس لمسائل الصلاة والزكاة والحج والصوم وهم يطوفون حول القبور وينذرون لغير الله تعالى ويذبحون لغيره جل وعلا ، ويدعون غير الله تعالى في كشف الملمات وتفريج الكربات , وليس من الحكمة أن ندعو تارك الصلاة إلى تربية لحيته وندع دعوته للصلاة ، وليس من الحكمة ولا من العقل أن ندعو الناس للدخول في البرلمانات السياسية ، والفقه في الأخبار الدولية وهم على جانب من الجهل بأمر الدين كتابا وسنة ، وإننا والله لنعاني في هذه الأزمنة المتأخرة من بعض الدعاة الذين لا فقه عندهم في مسألة البدء بالأهم فالمهم ، فترى الواحد منهم في المجلس الذي يعج بالعوام ، وهو يتكلم عن سياسات الدول وما فعله زيد وعبيد والحاكم الفلاني ، وما تحليل الصحف الإخبارية والأحداث العالمية ، وتراه أشغل الناس بقصاصات الجرائد والمجلات يقرأها على الناس ، وهم يحملون بين جنباتهم أطنانا من المخالفات العقدية والعملية ، بل لقد سمعنا عن بعضهم أنه زار بعض المدارس الابتدائية وتكلم عن أهمية معرفة الواقع من خلال متابعة الصحف والمجلات والتعليق عليها ، وهذا من الخطأ الظاهر ، وترى بعض الدعاة قد يتكلم عند العامة وأنصاف المثقفين عن الفرق المخالفة لأهل السنة وما قالوه من الشبه العقدية ، وكيف الجواب عنها ، وهم لا يفقهون أصلا الحق ، ولا يعرفون من عقيدة أهل السنة إلا النزر اليسير ، أي أنهم لم يتضلعوا من معرفة الحق المتفق مع الكتاب والسنة فكيف نقحمهم في مثل هذه المزالق التي يخشى عليهم من الانخراط في شيء من بلاياها ؟ فلا بد من الحكمة في الدعوة ، وبعض الدعاة تراه يدعو الناس للاطلاع على ثقافات الأمم وقراءة ما يتعلق بآداب الأمم ، والمدعو لا يعرف قراءة القرآن أصلا ، وليس له دور في تدبره وتعقله والاستمتاع بلذيذ خطابه هو لم يعرف الآداب التي قررتها شريعته التي يدين بها ، فكيف ندعوه إلى الاطلاع على تلك الثقافات والتي هي في الأعم والأغلب إنما بنيت على الكفر والضلالة ومخالفة مقتضى الدين وإذكاء نار الشهوة والتنكب عن صراط الفطرة المستقيمة والعقول السليمة ، فأين الحكمة الدعوية من هذا الصنف من الدعاة ؟ يشغلون الناس عن ما هو أهم بما هو تافه أو شبه تافه في كثير أحيانه ، وليس من الحكمة أن ندعو الناس إلى حفظ المتون العلمية في الفقه والمصطلح والنحو قبل دعوتهم إلى حفظ كتاب الله تعالى وبعض ما صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن حفظ كلام رب البشر، وحفظ كلام سيد البشر مقدم على حفظ كلام أي عالم من العلماء ، وليس من الحكمة أن ندخل بالناس في عويص المسائل والتي قد لا يفقهونها قبل التدرج معهم في فهمها بتوضيح مقدماتها وأوائلها ، فإن تحديث الناس بما يعرفون بما لا يوجب لهم الفتنة مطلب أساسي في الدعوة إلى الله تعالى ، وليس من الحكمة أن نهمل تقرير مسائل التوحيد بحجة أننا مهتمون بتعديل نظام الحكم إلى نظام إسلامي ، كما يقوله بعض الجماعات التي تنتسب للإسلام ، وليس من الحكمة أن نهتم بتصحيح المسار الفقهي عند مَنْ مساره العقدي أصلا مضطرب ، ومخالف لما عليه سلف الأمة من العقيدة والعمل ، فلا بد أولا من تقديم الكلام على أصول العقيدة والعبادة ، والاهتمام بكلياته ، وعدم الاشتغال بالمسائل الخلافية الفرعية لأنها تبدد الطاقات وتضيع الأوقات وتفوت الغايات ، وليس من الحكمة ولا من فقه الدعوة أن نقبل على تصحيح السلوكيات الظاهرة مع فساد وتلف الأفكار التي يحملها المدعو بين جنبيه ، فإن تلك الأفكار والفهم الفاسد سينسف في لحظة من اللحظات كل ما بنيناه ، فلا بد أولا من الإقبال بالكلية على تصحيح الأفكار وتعديل المفاهيم وتقويم الاعوجاج فيها، فإنها إن استقامت استقام بعدها كل شيء وأما فسادها فإنه سبب لفساد كل شيء ، وكم جر فساد الفكر على الإسلام والمجتمع المسلم من البلايا وكم أحل فيه من الرزايا ، فهل قتل الخليفة الثالث إلا بسبب فساد الفكر وخلل الفهم ، وهل خرجت الخوارج وترفضت الرافضة وتجهمت الجهمية وحلت البدع في العالم إلا بسبب خلل الفكر وفساد الفهم فإذا لا بد من الإقبال على تصحيح المفاهيم المغلوطة ، وتقويم الأفكار المنكوسة ، بل وهل وقع الشرك أصلا في بني آدم إلا بسبب فساد الفكر وخلل الفهم ، إذا فالحكمة تقضي أن نبدأ فاسد الفهم ومختل التفكير بتصحيح فهمه وتقويم فكره وأن ننشغل بهذا الأمر معه كثيرا ولو كان هذا على حساب تقويم سلوكياته الظاهرة ، لأن المتقرر في قواعد الدعوة أن البدء بالأهم فالمهم مطلب رئيس في الدعوة إلى الله تعالى ، وعليه فأقول :- لا بد أولا من تصحيح بناء العقيدة على ما قرره الكتاب والسنة وفهمه سلف الأمة ، ولا بد من الدعوة للتوحيد ، وتقويم الخلل فيه ، ولا بد من التحذير من الشرك والتحذير من كل وسائله وأبوابه التي تفضي إليه ، وهذا قبل كل شيء ، ثم بعد ذلك يأتي دور الدعوة إلى فعل الواجبات وترك المحرمات ، ثم يأتي دور الدعوة إلى الحرص على فعل المندوبات والترغيب في فضائل الأعمال والدعوة إلى ترك المكروهات ، والمهم الذي أريد إثباته هنا هو أن الدعوة لا بد فيها من التدرج والبدء فالأهم فالمهم من أمور الدعوة ، وهذا نابع من فقه واقع المدعو ، ونابع من دراسة ما قرره الدليل من الكتاب والسنة ، ونابع من الاطلاع المستمر على سير الدعاة المصلحين والأئمة المهتدين من سلف هذا الأمة المباركة ، ونابع من التجارب الواقعية والفهم الكامل ، وأما التخبط والعشوائية في الدعوة فهو أمر لا يقره الدين ، ولا يرتضيه العقل السليم ، ونتائجه في كثير من الأحيان لا تكون كما ينبغي ، فالله الله أيها الدعاة الموفقون في الاهتمام الكامل بهذه القاعدة الطيبة العريقة المباركة ، والله يتولانا وإياكم لما فيه خير البلاد والعباد ، وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يجعلكم مباركين حيثما كنتم ، وأن يكلل جهودكم بالنجاح والتوفيق ، والله أعلم .
(1) حديث صحيح , رواه البخاري , في الزكاة ، وفي المظالم , وفي المغازي , وفي التوحيد , ومسلم في الإيمان , والترمذي في الزكاة , وأبو داود في الزكاة ، والنسائي في الزكاة .
التعليقات