القاعدة السادسة عشرة :- من أصول الدعوة البراءة من المشركين ومن أهل البدع .
أقول :- وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم من أهل السنة والجماعة رحم الله تعالى أمواتهم وثبت أحياءهم ، فالدعوة الصحيحة لها أصول كثيرة ، ومن أهم أصولها البراءة من المشركين ومن أهل البدع والمراد بالبراءة منهم أي مجانبتهم ومصارمتهم ومعاداتهم وبغضهم وإعلان التبري منهم أمام الملأ ، فلا مداهنة ولا مجاملة على حساب الدين بيننا وبينهم ، قال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ ففي هذا دليل على أنه يجب البراءة من المشركين ، وأن من أصول الدعوة إلى الله: البراءة من المشركين أما الداعية الذي لا يتبرأ من المشركين، فهذا ليس بداعية، وليس على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن زعم أنه يدعو إلى الله، والكفر بالطاغوت مقدم على الإيمان بالله، كما قال تعالى ] فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [ فلابد من البراءة من المشركين وأهل البدع أما الذين يقولون: ما لنا ولعقائد الناس، من دخل في جماعتنا وصار معنا فهو أخونا، وعقيدته له ، هذه ليست دعوة إلى الله عزّ وجلّ، وإنما هي دعوة إلى الحزبية والعصبية ، كما قاله أهل العلم من أهل السنة فهذه المقالة الخطيرة تميع عقيدة الولاء و البراء ، والتي هي من أهم أصول الدين والعقيدة ، وقال تعالى ]قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[ فمفهوم البراء في الشريعة الإسلامية والعقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة تقتضي بغض أعداء الله تعالى ومعاداتهم والتبري منهم والتجافي عنهم ومصارمتهم وعدم التودد لهم بقولٍ أو فعل أو إشارة ، ومجاهدتهم بكل أنواع الجهاد بالقلب واللسان واليد والسيف والقلم ، فنجاهد كل طائفة منهم بما يناسبها من الجهاد ، وأن لا نتشبه بهم فيما هو من عاداتهم وعباداتهم وهجرهم وفضح أستارهم وكشف مخططاتهم وإدخال الغيظ في قلوبهم ، وإهانتهم وعدم إكرامهم والحط من قدرهم واضطرارهم إلى أضيق الطريق وعدم بداءتهم بالسلام ، وألاَّ يروا منَّا فعلاً أو يسمعوا قولاً يوجب دخول السرور على قلوبهم ، ومحاصرة اقتصادهم ومحاولة تضييق مجالات التعامل معهم حتى لا يستفيدوا من أموال المسلمين ويقاتلونهم بها وتكون أموالنا عونًا لهم علينا ، وأن لا تكون بيننا وبينهم علاقات وصداقات ودية ، فإن هذا منافٍ لمعنى التبري منهم ، بل الواجب قطع العلاقات معهم إلا فيما اضطررنا إليه ولم نجد بدًا من التعامل معهم فيه ، فلا بأس ولكن الضرورة تقدر بقدرها ، وبالجملة :- فكل ما من شأنه أن يكون برهانًا على صدق البغض القلبي الذي عليه مدار البراء فإنه داخل في مفهومه ، فمن تحقق فيه مقتضى البراءة المطلقة فلابد أن نتبرأ منه البراءة المطلقة التي تقتضي عداوته العداوة المطلقة وبغضه البغض المطلق ، وهذا فرض واجب على كل أحد ، وهي من الأمور التي نتقرب بها إلى الله تعالى ، وأنت خبير - إن شاء الله تعالى - أن البراءة المطلقة إنما تكون في حق الكافر الكفر الأكبر ، والمشرك الشرك الأكبر ، والمنافق النفاق الاعتقادي ، فالكافر لابد أن نتبرأ منه البراءة المطلقة ونعاديه ونبغضه المعاداة والبغض المطلق والمشرك شركًا أكبر لابد أن نتبرأ منه البراءة المطلقة ونعاديه ونبغضه المعاداة والبغض المطلق ، والمنافق النفاق الاعتقادي لابد أن نبرأ منه البراءة المطلقة ونعاديه ونبغضه المعاداة والبغض المطلق للآية السابقة ولقوله تعالى ] لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [ أي أن من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره فقط لا بباطنه ونيته ، وذلك كما قال أبو الدرداء " إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم " رواه البخاري. وقال الثوري: قال ابن عباس " ليس التقية بالعمل وإنما التقية باللسان " وقال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ وقال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ وقال تعالى منكرًا على من يوالي الكفار ] الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [ والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا ، وهي تفيد إفادة قطعية وجوب البراءة المطلقة لمن اتصف بالكفر أو الشرك الأكبر أو النفاق الاعتقادي ، فهذا بالنسبة للبراء المطلق أو البراء الكلي . وأما مطلق البراء أو البراء الجزئي ، فإنه يكون لعصاة الموحدين سواءً كانت المعصية معصية شهوة أو شبهة ، ويدخل في ذلك المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم كالأشاعرة والمعتزلة والماتريدية والخوارج والكلابية والمرجئة ونحوهم فنبرأ منهم لكن ليس البراء المطلق ؛ لأن معهم أصل الإسلام وإنما نبرأ منهم مطلق البراء أي بعض البراء لا كل البراء ، ومطلق البراء ممن تحقق فيه ما يقتضيه ، يوجب مطلق العداوة أي بعضها لا كلها ويوجب مطلق البغضاء أي بعضها لا كلها ، وهذا يؤيد مذهب أهل السنة أنه قد يجتمع في الشخص الواحد موجب المحبة والعداوة ، وموجب الثواب والعقاب ، وبعبارة أخرى نقول : عصاة الموحدين نحبهم ونواليهم بما معهم من الإيمان ، ونبغضهم ونعاديهم بما معهم من الفسوق والعصيان ، وإننا في هذه الأزمنة لنعاني أشد المعاناة من بعض من ينتسب للدعوة وهو على جانب كبير من موالاة الكفار وأهل البدع ، وإننا لنرى صورا كثيرة جدا من موالاة الكفار وأهل البدع ، ومن باب التوضيح نضرب لك بعض الأمثلة على هذه الموالاة التي تضرب في أصل الولاء والبراء ، والتي صار يوصف بالتحضر والتقدمية والانفتاح من يقوم بها ، فأقول :-
منها :- الرضا بكفرهم وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهبٍ من مذاهبهم الكافرة ، وهذه الصورة ناقضة للتوحيد من أساسه وقد جعلها العلماء من جملة نواقض الإسلام ، فنبرأ إلى الله منها ومن أهلها ، والله أعلم .
ومنها :- التولي العام للكفار باتخاذهم أنصارًا وأعوانًا وأصدقاء وإخوانًا أو الدخول في دينهم أو إعانتهم على مراسم كفرهم بقولٍ أو عمل ، والله المستعان .
ومنها :- التحاكم إليهم عند نزول الحوادث وترك التحاكم للشريعة ، فما أن تنزل نازلة بالمسلمين إلا ويرفعون الأمر إلى الكفار ليحكموا فيه ، وهذا خطير جدًا ؛ لأنه نوع من الإيمان بما هم عليه من الكفر قال تعالى ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا [ والله أعلم .
ومنها :- مودتهم ومحبتهم والسعي الحثيث في تحقيق ما يرضيهم ولو كان على حساب الإسلام وقضاياه وهذا مزلق خطير وطامة كبيرة
ومنها :- الركون إليهم ، قال تعالى ] وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [ والمراد بالركون إليهم أي الاعتماد عليهم في سائر الأمور أو أغلبها اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وفكريًا وغير ذلك ، والله المستعان .
ومنها :- مداهنتهم ومجاملتهم ومداراتهم على حساب ديننا ، قال تعالى ] وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [ ومنها :- اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين ، قال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [
ومنها :- طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون به ، قال تعالى ] وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [ وقال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ [ .
ومنها :- توليتهم أمرًا من أمور المسلمين كالإمارة والكتابة وقيادة الجند أو توزيرهم ، ونحو ذلك .
ومنها :- التشبه بهم فيما هو من عباداتهم أو عاداتهم ومشاركتهم في أعيادهم وفي مراسم كفرهم الخاصة بهم وتهنئتهم على ذلك .
ومنها :- تهنئتهم باستقلال بلادهم والدعاء لهم بمزيد من الرخاء والاستقرار كما هو حاصل هذه الأزمنة في كثير من بلاد الإسلام .
ومنها :- البشاشة لهم والطلاقة وانشراح الصدر لهم وإكرامهم ، وتقديمهم في المجالس وتقريبهم، وإفساح الطريق لهم ، وبداءتهم بالسلام ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه "(1) .
ومنها :- السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " رواه أبو داود بإسناد حسن(2) .
ومنها :- معاونتهم على ظلمهم ونصرتهم فيه .
ومنها :- تعظيمهم بإطلاق الأوصاف عليهم كصاحب الفخامة أو السيد الرئيس أو صاحب العظمة .
ومنها :- مناصحتهم والثناء عليهم ونشر فضائلهم .
ومنها :- تفضيلهم على المسلمين ، وهذه طامة يقع فيها كثير من المغرورين بما عليه الغرب من الحضارة والتقدم .
ومنها :- التآمر معهم وتنفيذ مخططاتهم والدخول في أحلافهم وتنظيماتهم ومكاتبتهم بعورات المسلمين ونقاط الخلل فيهم .
ومنها :- فرح القلوب بانتصارهم على المسلمين كما قد فرح بعض المنافقين هذه الأزمنة بانتصار بعض دول الكفر على بعض دول الإسلام .
ومنها ولعله آخرها :- من هرب إلى ديارهم مبغضًا الإقامة في ديار المسلمين ومعتزًا بالكافرين ومحتميًا بهم كما هو حاصل من بعض المنافقين في هذه الأزمنة
والمقصود من هذه القاعدة :- أنه لا يجوز بناء أمر الدعوة على التساهل مع أهل الكفر والبدعة ، بل لا بد وأن يكون هناك مصارمة لأهل البدع والكفر والزندقة وإظهار العداوة لهم والتبري منهم ، وإن اضطر الداعية إلى دعوتهم فلا بد من الرفق واللين في أول الأمر ، ولكن اللين والرفق في أمر الدعوة في الظاهر لا يلزم منه محبتهم ولا موادتهم في الباطن ، وهذا أصل كبير من أصول الدعوة لا بد من الاهتمام به وتذكير الدعاة به بين الفينة والأخرى ، والله الموفق والهادي على سواء السبيل . والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
(1) إسناده صحيح على شرط مسلم. وهو في "مصنف عبد الرزاق" (9837) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أبو عوانة في الاستئذان كما في "إتحاف المهرة" 5/ورقة 150 وقد صححه الألباني في " الإرواء " و " السلسلة الصحيحة " .
(2) رواه أبو داود رقم (2787) في الجهاد ، باب في الإقامة بأرض الشرك ، وله شاهد عند الترمذي رقم (1605) في السير ، وأبي داود رقم (2645) في الجهاد ، من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله , وقال الترمذي : وأكثر أصحاب إسماعيل قالوا : عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث ، يعني أنه مرسل ، وقال : المرسل أصح ، وقد صحح البخاري ، وأبو حاتم ، وأبو داود ، والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم .
التعليقات