القاعدة السابعة عشرة :- تقديم تقرير العقيدة الصحيحة في قلوب الناس مقدم على الاشتغال بغيره .
أقول :- لقد أكثرت عليك في الاهتمام بأمر العقيدة ، وما ذلك إلا لعظم الخطر في المخالفة ، فلا تلمني على ذلك ،ولأن المخالفات العقدية في الدعوة إلى الله تعالى هي الغالبة على كثير من الدعاة إلى الله ممن ينتسب للإسلام ، فليكن - أيها الداعية الموفق - تصحيح أمر العقيدة في قلوب العامة هو المقدم على غيره من الأمور الثانوية الجانبية التي قد يستغنى عنها إلى وقت آخر ، فلا تلته عنه بغيره من الأمور ،بل لا بد من تذكير الناس به بين الفينة والأخرى ،وقد كان الشغل الشاغل عند الأنبياء والرسل إنما هو تقرير أمور العقيدة السليمة في قلوب من بعثوا له ، ونسف العقائد الفاسدة المخالفة للحق وتقويم الأفكار الباطلة في العقول والمتقررة في القلوب ، فالداعية الناجح الموفق هو من سار على منهاجهم واقتفى آثارهم في هذا الأمر وفي كل الأمور الدعوية ، فإن الأنبياء والرسل هم سادة الدعاة ومنهم نتعلم أمور الدعوة إلى الله تعالى ، فكان الاهتمام بأمر العقيدة وتقريرها في قلوب الناس هو همهم الأكبر الذي لا يشتغلون عنه بأمر غيره ، لأن أمر العقيدة إذا سلم من درن الشرك والبدعة والشبهة فما عداه من الأمور أيسر إن شاء الله تعالى ، ولا أقول إن الداعية لا يتكلم في غير العقيدة ، ولكن أقول:- لا بد وأن يكون اهتمامه الأكبر هو تقرير العقيدة الصحيحة ، بل إن الداعية الموفق هو من يقرر في قلوب الناس أن تلك الأمور العملية إنما ترد إلى الأمر الاعتقادي ،لأن المتقرر عند عامة أهل العلم رحمهم الله تعالى أن الأعمال والأقوال في الظاهر إنما مردها قبولا وردا وصحة وبطلانا إلى الأمور الباطنية وأن العقيدة هي أساس العمل وقاعدته التي لا بد من إحكامها والاهتمام بها أكثر من غيرها ، وسيأتي مزيد تقرير لارتباط الأعمال بالعقيدة في قاعدة مستقلة إن شاء الله تعالى ، قال الله تعالى ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ وقال تعالى ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [ فلا بد من اغتنام الفرصة في تقرير العقيدة ، واستغلال المناسبات العامة والخاصة في تعريف الناس بأمور العقيدة الصحيحة ، على ما يتناسب مع عقولهم وأفهامهم ، وقد مكث النبي صلى الله عليه وهو يقرر أمور العقيدة في قلوب الناس في العهد المكي قرابة الثلاثة عشرة سنة ، ولم ينته الأمر لما هاجر إلى المدينة بل ازداد التقرير والتنبيه على أمور العقيدة ، إذا علمت هذه الأهمية لأمور العقيدة فإننا نجد من الدعوات والطوائف في هذه الأزمنة المتأخرة من يمنعون الكلام في أمور العقيدة بحجة أنها تفرق ولا تجمع ، وتفسد ولا تصلح ، بل لا يتفرق الناس ويتحزبون إلا إن تكلموا في العقيدة والتوحيد ، وهذه الطائفة والدعوات في حقيقتها أنها ضالة مضلة ، ودعوات فاسدة ، لأنها تنسف الكلام على أهم نقطة في الدعوة إلى الله تعالى ، فنحن لا نريد الناس أن يجتمعوا على البدعة بتكثير سوادهم فقط ، بل لا نريد الاجتماع إلى على الحق المتفق الاعتقاد الصحيح ، فإبعاد العامة عن سماع العقيدة الصحيحة وتقرير أمور التوحيد من الجرائم الخطيرة ، والفوادح الكبيرة ، ومن الطوائف من تقول :- إن المهم هو تجميع الناس تحت مظلة الإسلام ، بغض النظر عن عقائدهم فالمهم هو التجميع ولا نسأل عنهم هل هذا سني أو بدعي أو رافضي أو معتزلي أو أشعري ، لا تسأل عن ذلك ، وهذا في الحقيقة دعوة إلى غير الحق ، لأنه مفاد هذه الدعوة نبذ ما تقرر بالدليل من مبدأ الولاء والبراء ، والذي هو من أهم ركائز عقيدة أهل الإسلام ، فالله تعالى ميز في كتابه بين المؤمن والكافر والبر والفاجر فقال تعالى ] أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ والأدلة على وجوب التمييز بين الناس باعتبار الدين لا تكاد تحصر ، فهذه الدعوات المبنية على عدم التفريق بين المؤمن والكافر والبر والفاجر دعوات تنسف الدين وتلغي أصله الأعظم وهو الولاء والبراء ، وما ذلك إلا بسبب إبعاد التوحيد عن واقع الناس ، وهناك من الدعوات من تقول :- إن أهم المهمات هو أمور الحكم والسياسة وما بعدها من الأمور فيأتي تبعا لها ، فتراهم يتركون الناس على المخالفة والبدعة ولا يتكلمون في التوحيد والعقيدة ولكنهم يلهثون وراء المناصب والبرلمانات ويتسابقون على كرسي الولاية تسابق الكلاب على الفريسة ، وهذا خطأ عظيم على الدين ، وعلى العامة من المسلمين ، بل المهم أن تقرر مسائل التوحيد ويوضح للناس المقصود من أصل وجودهم في هذه الحياة ، فتقرير التوحيد وتوضيح العقيدة هو الأمر الذي لا بد وأن يكون في المرتبة الأولى من اهتمامات الداعية وأن لا يشتغل عنه بغيره من الأمور ، فالعقيدة أولا يا دعاة الإسلام ، العقيدة أولا يا دعاة الإسلام ، العقيدة أولا يا دعاة الإسلام ، ومن الطوائف من تجعل مسألة الإمامة هي أعظم مسائل الدين وأهم ركيزة ينبني عليها أمور العقيدة كما هو الحال عند الرافضة ، وهذا أمر قد علم بطلانه بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة وتقريرات سلف الأمة ، فليست مسألة الإمامة والحكم ولا مسألة اللهث وراء الكراسي السياسية والمناصب البرلمانية بأهم من تقرير العقيدة الصحيحة السليمة في قلوب العامة ، بل من قدم شيئا على أمور العقيدة فإنما أتي من جهله وقلة فهمه أو من شهوة كدرت عليه صفو المشرب أو من شبهة أفسدت عليه مبدأ المصالح والمفاسد ، وهناك من الطوائف من تجعل أول الواجبات المتحتمات على العبد إنما هو النظر والقصد إلى النظر أو الشك ، كما هو الحال عند علماء الكلام والفلاسفة وهذا أمر باطل ، بل تقرير التوحيد في القلوب هو أول الأمور ونهاية الأمور ، فإن العبد لا يدخل في الإسلام إلا بالتوحيد ، وعليه أن يستمر على سلامة التوحيد والعقيدة حتى يفارق هذه الحياة ، كما قال عليه الصلاة والسلام " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "(1) فالتوحيد هو أول الأمر وقال عليه الصلاة والسلام " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله "(2) فالتوحيد هو آخر الأمر ، فتقرير التوحيد في قلوب العامة أصل كبير من أصول الدعوة إلى الله تعالى ، ولا يكون الداعية موصوفا بالنجاح إلا إذا كان تقرير مسائل التوحيد هو شغله الشاغل ، وعلى ذلك سار الأنبياء وأتباعهم من أهل العلم ، ونحن على دربهم سائرون إن شاء الله تعالى ، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على هذا الأمر إلى أن نلقاه ، وقد جمعني مجلس مع سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى ، وكان المجلس قد امتلأ بكبار المعلمين من الدكاترة من منسوبي الجامعات ، وطلبة العلم ، فكان الشيخ رحمه الله تعالى يتكلم عن أنواع التوحيد الثلاثة ، والتي يدرسها طلاب الصف الابتدائي عندنا ، فقلت :- هكذا العلماء ، فإن التوحيد هو وظيفة حياتنا ، وهو الحكمة والغاية من وجودنا ، فهو موضوع حياتنا الذي لا ينتهي ، وموئل عزنا الذي لا ينقضي ، مهما كبرت مناصبنا وكثرت أموالنا وتعددت معارفنا ، وامتلأت أجوافنا من العلم وصار الواحد منا يوصف بأنه دكتور أو بروفسور ونحوها من الأوصاف الحياتية الكبيرة عند أهلها فإن التوحيد وتقرير التوحيد لا يزال هو الموضوع الأول والأخير في الحياة ، فمن وجد في نفسه كبرا عن سماع أوليات مسائل التوحيد وأنها لا تناسب إلا الصغار فقد ضل ، فالتوحيد وتقرير التوحيد وتصحيح مسائل العقيدة لا بد وأن تكون في المرتبة الأولى من اهتمامات الداعية ، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
(1) إسناده صحيح على شرط الشيخين ، غير عصام بن خالد ، فمن رجال البخاري . وأخرجه البخاري (1399) و (1456) و (1457) ، والبيهقي 4 / 104 من طريق أبي اليمان ، و أخرجه النسائي 5 / 6 و7 / 78 وابن حبان (216) من طريقين عن شعيب بن أبي حمزة ، به . وقد تقدم برقم (67) .
(2) رواه مسلم رقم (916) في الجنائز , باب تلقين الموتى لا إله إلا الله ، والترمذي رقم (976) في الجنائز , باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت , وأبو داود رقم (3117) في الجنائز ، باب في التلقين ، والنسائي 4 / 5 في الجنائز ، باب تلقين الميت
التعليقات