القاعدة الثامنة عشرة :- الحكمة في الدعوة أصل من أصولها التي تبنى عليها الدعوة الناجحة والمنضبطة على هدي النبوة .
أقول :- لقد تكلمنا سابقا عن شيء مما يتعلق بهذه القاعدة ، ولكن لأهميتها لا بد وأن نزيد في تفاصيلها فأقول :- قال الله تبارك وتعالى ] ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ وقال تعالى ] يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [ والمراد بالحكمة ما قرره ابن القيم رحمه الله تعالى من أنها فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي ، إذا فالحكمة منة ، ونعمة عظيمة من الله تعالى يمتن بها على من يشاء من عبادة ، وهي من الأشياء التي يمكن اكتسابها بالمراس والمران ، ولما شقت الملائكة صدر النبي صلى الله عليه وسلم وغسلته ، جيء بإناء من ذهب مملوء حكمة وإيمانا فأفرغته الملائكة في صدره صلى الله عليه وسلم ، قال بعض العلماء (وهذا يثبت أن الحكمة من أعظم الأمور الأساسية في منهج الدعوة إلى الله تعالى ، حيث امتلأ بها صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الدعوة مع الإيمان ، وهو قضية الدعوة في لحظة واحدة ، كما يؤكد قيمة وأهمية الحكمة من خلال مجيئها يحملها جبريل عليه السلام وهو روح القدس ، في طست من ذهب ، وهو أغلى المعادن ، في مكة المكرمة وهي البقعة المباركة ؛ ليمتلئ بها صدر محمد صلى الله عليه وسلم وهو خير الخلق ، بعد غسله بماء زمزم وهو أطهر ماء وأفضله) وهذا مما يبرز أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى ، والحكمة في الدعوة هي حزام الأمان من الخلل بإذن الله تعالى ، وهي الطريق لتحقيق المصالح ودفع المفاسد ، وتحصل بها المقاصد الدعوية بأقرب طريق وأقل كلفة ، إذا فالحكمة في الدعوة أمر مطلوب ، والداعي إلى الله مأمور بتوخي الحكمة حين دعوته ، وحينما طبق الصحابةـ رضوان الله عليهم الحكمة في دعوتهم ، وساروا على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ونهجه دخل الناس في الإسلام أفواجا ، وانتشر الإسلام في بقاع الأرض ولكن لا يُفهم من الحكمة في الدعوة أنها تعني الرفق ، والحلم مع المدعو فحسب ، بل إن مراتب الحكمة تتجاوز ذلك كثيرا ، فمن الحكمة أن يكون الداعي رفيقا لينا مع المدعوين كما قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ] وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [ وقال سبحانه مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام ] اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [ ومن الحكمة أحيانا استخدام الشدة والتأنيب أحيانا ، ذلك لأن الحكمة تعني وضع كل شيء في موضعه ، فهي لين في وقت اللين ، وشدة في وقت الشدة , يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام مخاطبا فرعون لما طغى وتكبر ] قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا [ ويقول تعالى ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ وإن من الحكمة أيضا أن يكون الداعي قدوة في قوله وفعله ، يقول الله تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [ ومن أصول الحكمة مراعاة حال المدعوين ، إذ ليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد في الدعوة مع الكبير والصغير ، والرجل و المرأة ، والمتعلم والجاهل ، والرئيس والمرؤوس ، والهادئ والغضوب ، بل لا بد من تنويع أسلوب المخاطبة كل بما يناسبه ، إن الداعي الناجح هو الذي يعطي كل إنسان ما يلزمه من أفكار وتوجيهات، ويحاول أن يقنعه بالأسلوب الذي يناسبه ويناسب مداركه ، قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ( ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو، ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنع، وبعض الإعراض فيحتاج إلى وعظة وإلى توجيه وإلى ذكر آيات الزجر )ا.هــ. ومن مراتب الحكمة المجادلة بالتي هي أحسن من ضرب الأمثلة ، وبيان الحق بالأدلة العقلية والنقلية، وتوضيح الحجج الصادقة، ونقض الحجج الباطلة، مع تحري الوصول إلى الحق ، يقول الله تعالى ] وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ وليحذر الداعي أن يتحول قصده من الدعوة إلى إظهار التفوق في النقاش، أو الغلبة في الجدل، ولكن ليكن القصد والغاية الإقناع والوصول إلى الحق , كما أن من أعلى المراتب التي يجب أن يتحلى بها الداعي إلى الله دفع السيئة بالحسنة ، وهي مرتبة رفيعة لا ينالها إلا فئة نالت حظا عظيما كما قال سبحانه وتعالى ] وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [ وفي جميع الأحوال يجب على الداعي قول الحق، والصبر على الأذى، صبر المؤمنين العاملين، لا صبر الخانعين المستسلمين ، ومن الحكمة في الدعوة تحين الفرص المناسبة للدعوة ، وأن لا تكون كيفما اتفق بل لا بد من التخطيط والنظر ، ومن الحكمة في الدعوة تحديث الناس على قدر أفهامهم وعقولهم, وأن لا يجمل عقولهم وأفهامهم من الكلام ما لا تحتمل فتكون لبعضهم فتنة ، ومن الحكمة أن لا ينكر على أخطاء الولاة والعلماء أمام العامة ، حتى وإن كانت هناك أخطاء محققة ، ولكن الإنكار العلني على هذه الطائفة مجانب للحكمة والعقل والدين ، ومن الحكمة الدعوية محاولة دعوة الناس إلى الالتفاف حول العلماء والأمراء ، وتأليف القلوب عليهم ، والتحذير من الدعاوى المناوئة لذلك ، ومن الحكمة في الدعوة الحرص على دعوة الكبراء والوجهاء لأن في صلاحهم صلاح لمن تحت ولايتهم وأيديهم, ومن الحكمة الدعوية عدم قبول عطايا الحكام حتى لا تكون لهم على العالم منة بها يستذل ويهان ، ومن الحكمة البدء في الدعوة بتقرير العقيدة وتصحيح مسائل التوحيد قبل كل أمر دعوي ، ومن الحكمة سياسة الأمور بدراية كاملة وعقل حصيف ونظر ثاقب ، وأما النزق والحنق والطيش والصفاقة والصراخ فإنها تفسد ولا تصلح وتهدم ولا تبني ، ومفاسدها أكبر من مصالحها المرجوة ، ومن الحكمة في الدعوة الرفق والحلم والصفح عن المخطئ والتجاوز عن الكلمة النابية في سبيل الدعوة ، ومن الحكمة سبر الأمور بمنظار الشرع والحرص على مراعاة المصالح والمفاسد ، ومن الحكمة الصبر على الناس ومداراتهم والتلطف بهم حتى يصل الداعية بهم لبر الأمان ، فإن ربان السفينة لا ينتقم ممن أغضبه بتغيير سيرها إلى المهلكة ، ومن الحكمة في الدعوة كتم الأمور التي يكون في إظهارها مفسدة خالصة أو راجحة ، ولا أقول إن الداعية يكون كومة من الأسرار ولا يدري الناس عن حقيقة أمره ، وكذلك لا يكون خرقا بالحديث عن كل شيء وفي كل شيء ، بل لا بد من الرزانة والعقل ، فالأمر الذي يكون في إبدائه مفسدة خالصة أو راجحة فالحكمة كتمه عن الناس ، ومن الحكمة التحلي بالأخلاق الحسنة والتجافي عن الأخلاق المذمومة الممقوتة التي تمجها الطباع والعقول ، ومن الحكمة أن لا يستذلك جاهل ولا ييأس من فضلك محتاج ولا يطمع فيك ظالم ولا تفتح بابا لقلة الأدب عليك ، ومن الحكمة أن تتكلم حيث كانت المصلحة في الكلام وأن تسكت حيث كانت المصلحة في السكوت ، وإن لا تمازح في موضع الجد ، وأن لا تماري مع اتضاح الحق ، وأن لا تجرئ العامة على أحد من المسلمين لاسيما الأمراء والعلماء ، وأن لا تطرق أمرا يحملك على الاعتذار ، وأن لا يخالف قولك عملك ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، ومن الحكمة موافقة الناس في ما كان من عاداتهم في حدود الدليل ، وأن لا تتميز عليهم بملبس ولا بمسكن ولا بمركب ، فإذا كان الله تعالى قد أخبرنا أنه لا يبعث رسولا إلا بلسان قومه لأنه أدعى للقبول ، فكيف بموافقة القوم فيما عدا هذا ؟ لا جرم أنه أدعى للقبول من باب أولى ، وهي الحال التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن الحكمة مشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم ومواساتهم بالمقدور عليه من المال والجاه والشفاعة الحسنة والاهتمام بأمورهم الخاصة وفتح الباب للمشورة ، وأن لا يكون الداعية مغلقا على نفسه ، لا يعرفه الناس إلا في مواضع الدعوة فقط من درس أو محاضرة، بل لا بد وأن يكون مع الناس المعية التي لا توجب له في خاصة نفسه ضررا أو مفسدة وهكذا كانت حاله مع أصحابه صلى الله عليه وسلم ، ومن الحكمة مراعاة أحوال المدعوين في تطويل الكلام أو اختصاره ، مع أن الاختصار هو معهود الشرع في الأعم الأغلب ، فخير الكلام ما قل ودل وأغنى عن غيره ، ومن الحكمة رحمة الناس وتهيئة الجو قبل الدعوة وحسن التحضير واختيار الطريقة المناسبة في الإلقاء ، ومن الحكمة الجمع بين مسلكي الترغيب والترهيب في الدعوة ، فإن الداعية الموفق هو من لا يحمل الناس بالترغيب على الأمن من مكر الله ، ولا يحملهم بالترهيب على القنوط واليأس من روح الله ، وإنما يسلك بهم جادة الوسطية بالجمع بين هذين المسلكين ، وخير الأمور أوساطها، ومن الحكمة رد الخطأ لذات الخطأ ، ولا يتكلم الداعية عن ذوات المخطئين إلا إن قام داعي المصلحة الخالصة أو الراجحة ، ومن الحكمة ضرب الأمثلة التوضيحية للتفهيم لأن من الناس من لا يفقه الأمر النظري المجرد عن المثال الذي يفهمه ، ومن الحكمة اختيار أبسط الألفاظ وأيسرها وأقربها للفهم وأبعدها عن التعقيد والحيرة ، فإن الله تعالى بنى أمر هذا الدين على التيسير والتخفيف لا على التعسير والإثقال ومن الحكمة قبول الحق ممن جاء به وإن جاء به المخالف ، ورد الباطل ممن جاء به وإن جاء به المحب الصديق ، ومن الحكمة في الدعوة الحرص على مبدأ سد الذرائع وقطع أسباب الشر والتحذير من الطرق التي تفضي إلى الحرام في الحال أو المآل ، ولكن بتوسط ، بحيث لا يقفل الباب مطلقا ولا يفتحه مطلقا ولكن الطريق التي توصل إلى الحرام في غالب الظن هي التي يجب سدها ، ومن الحكمة احترام ذوات الناس واحترام أنسابهم وعدم الخوض فيما لا يعني ، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وبالجملة فإن مفهوم الحكمة واسع لا يكاد يحيط به قلم الكاتب ، وإن من أهم ما يورث الحكمة هو تدبر كتاب الله تعالى وتعقله وتأمل معانيه ومعرفة أسباب نزوله ، وكثرة الدعاء بالتوفيق والفهم ، والانكباب بالكلية على قراءة السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، قراءة تفقه وتدبر واستنباط للفوائد ، لا قراءة سرد تاريخي فقط ، فإنه صلى الله عليه وسلم أعظم الدعاة إلى الله تعالى وأفضل الدعاة وأنجح الدعاة ، وأحكم الدعاة، فمن سار على منهجه في دعوته فقد أفلح الفلاح الكامل ، وكانت دعوته على منهاج النبوة ، وكذلك سير أصحابه الكرام ، رضوان الله تعالى عليهم ، فإنهم خير دعاة الأرض بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، والله من وراء القصد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
التعليقات