القاعدة العشرون :- كل داعية لا بد من تمحيصه بالابتلاء.ولا مخرج له إلا بالصبر واحتساب الأجر .
أقول :- الابتلاء سنة الله تعالى في خلقه ، فكل مخلوق فلا بد وأن يصيبه من الابتلاء ما كتبه الله تعالى وكل يبتلى على قدر إيمانه ، فأشد الناس بلاء هم الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، ولا يتصور أحد من الخلق أن الأمر سيمر هكذا من غير تمحيص ولا ابتلاء ، بل لا بد وأن يكون هناك ابتلاء ، وحيث كان العلماء هم ورثة الأنبياء فإنه لا بد وأن يصيبهم من البلاء من جنس ما أصاب الأنبياء ،وإن لم يكن الأمر على قوته وشدته لأن الأنبياء أكمل إيمانا من غيرهم ، ولكن لا بد وأن يصيبهم شيء من ذلك هذا أمر مفروغ منه ،بل هو علامة الصدق ، فإذا رأيت الداعية لا يبتلى فقد يكون عدم ابتلائه لخلل في نفسه ، وتمني الابتلاء لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن لقاء العدو ،وما يدريه لعله يتمنى فيصيبه من البلاء ما لا صبر له عليه فيفتن ، وقد جزم الدليل بمجيء الابتلاء لتمحيص الدعاوى قال تعالى ] أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [ وقال تعالى ] وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [ فأخبر جل وعلا أنه يبلو الناس بالشر تارة وبالخير تارة، وكل ذلك فتنة، يكون فتنة لمن أصابه الخير والسّراء ويكون فتنة لمن أصابه السّوء والضراء، وكل ذلك داخل في ابتلاء الله حيث اختبار الله للناس ، وعلى هذا فالناس أفرادٌ وجماعات، تارة يُبتلون بالخير وتارة يبتلون بالمصائب، وكل ذلك موافق لحكمة الله جل وعلا، فهو الذي يقدّر ما يشاء، ويقضي بما يشاء له الملك كله وله الحكم كله، كل ما يجري في ملكوته بدون استثناء، فإنما هو صادر عن أمره موافق لحكمته موافق لمشيئته جل وعلا، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالعلماء والدعاة إلى الله تعالى لهم النصيب الأوفر من هذا الابتلاء ، فمنهم من يبتلى بالخير ومنهم من يبتلى بالشر والمصائب ، فأما الابتلاء بالخير فالمخرج منه كمال الحمد وكمال الشكر ، وأن يكون من الأسباب المعينة على طاعة الله تعالى وأن يسخر هذا الخير في نفع الناس ، وفيما يقربه إلى الله تعالى ، وأما إن كان الابتلاء بالمصائب والشر فالمخرج منه إنما يكون بالصبر واحتساب الأجر ، وأن يعلم أن الفرج مع الصبر وأن مع العسر يسرا ، وأن الله تعالى ما أجراه عليه إلا ليريد به الخير والرفعة في الدارين ، فإن العالم لا يعلو صيته ولا يظهر أمره في الأعم الأغلب إلا بعد التمحيص والابتلاء ، فمنهم من يبتلى بالقتل ، ومنهم من يبتلى بالحبس والجلد ، ومنهم من يبتلى في عرضه بالانتهاك أو بالتعذيب بالحديد والنار ، ومنهم من يبتلى بمحاربته في رزقه ومصدر كسبه ، ومنهم من يحارب بالطرد من بلاده وإبعاده عن أهله ، إلى غير ذلك من صور الابتلاء ، وهكذا سنة الله تعالى في أنبيائه ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى (الطريق شاق، ناحَ فيه نوح، وذُبِحَ فيه يحيى، وأُلْقِي في النار إبراهيم، وشُجَّ فيه وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقُتِل فيه الشهداء، وأنت تريد الجنة وأنت راقد على فراشك بدون تعب! ] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [ حتى الرسول نفسه كاد أن يشك ] حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ا.هــ. بل قال الله تعالى ] مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [ وهذا التمييز لا يكون إلا بالفتنة والاختبار ، فلا غرابة في أن يبتلى العالم والداعية لا سيما إن كانت دعوته على علم وبصيرة ، فإن ابتلي العالم فعليه بمراعاة عدة أمور , الأول :- أن يعلم أن هذا الأمر مما كتبه الله تعالى عليه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال الله تعالى ] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [ وقال تعالى ] وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [ وقال صلى الله عليه وسلم " كتب الله تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " رواه مسلم(1) ، وقال عليه الصلاة " كل شيء بقدر الله تعالى حتى العجز والكيس "(2) وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ،واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيء قد كتبه الله لك رفعت الأقلام وجفت الصحف "(1) فإن المصيبة إن علقت بقضاء الله تعالى وقدره خفت على صاحبها بإذن الله تعالى ، وأنت خبير بأن أهل السنة رحمهم الله تعالى قد أجمعوا على جواز الاحتجاج بالقدر عند نزول المصيبة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل"(2) فالداعية إن لم يكن يعلق ما يصيبه من الابتلاء بمسألة القضاء والقدر فقد يكسل أو يفتر أو يكثر تسخطه على حاله وحال الأمة ، وما أكثر التشكي في هذه الأزمنة من بعض الدعاة ، وهذا أمر لا ينبغي ، بل الداعية عليه أن يعلق أموره بالقضاء والقدر ، الثاني :- أن يعلم الداعية أن ما أصابه من السوء والضرر لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأن أزمة الأمور كلها بيد الله تعالى وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، الثالث :- أن يتيقن الداعية أن ربه هو الحكيم ذو الحكمة الكاملة ، فحيث أصابه هذا الضرر والسوء فليعلم أنه خير له ، لأن الله تعالى لا يقدر على عبده المؤمن إلا ما هو خير له ولكن إن عامله بالصبر وعدم الجزع ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ،وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن "(3) والداعية والعلماء هم سادات المؤمنين ، فلا جرم صدق الحديث عليهم من باب أولى من صدقه على عامة أهل الإيمان ممن ليس لهم دور في العلم ولا في الدعوة إلى الله تعالى ، فعليك أخي الداعية أن لا تنظر إلى المصيبة بمعزل عن حكمة الله تعالى ، فالله تعالى له الحكمة البالغة العظيمة والمصلحة الكبيرة فيما أصابك ، فأنت وإن كنت ترى في أول الأمر أن ما أصابك شر وضرر محض ولكن في نهايات الأمور ترى الخير الكثير الطيب من الآثار العظيمة من هذا الابتلاء سواء رأيته في الدنيا أو رأيته في الآخرة ، فالله تعالى لا يجري على عبده المؤمن ما هو ضرر محض وشر محض تعالى الله عن ذلك ، فإن الفتنة مأخوذة من فتن الذهب ، وهي عرضه على النار حتى يذهب خبثه وما علق به من المواد الأخرى ، فحال الذهب بعد هذا الإحراق البليغ أكمل من حاله قبل ذلك ، وكلما كثر تحريقه وزاد كلما زاد نقاؤه وصفاؤه ، فالفتنة إن نزلت بك أيها الداعية المبارك فلا تجزع ، واعلم أنك تصفى وتنقى مما دخل عليك من الشوائب القلبية والعملية التي لا بد من تكفيرها ، الرابع :- الصبر الصبر ، الصبر ، فوالله لا مخرج للداعية مما نزل به إلا بالصبر ، وهو حبس النفس عن فعل ما لا يليق فالصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ومن لا صبر له فلا إيمان له ، وسريع الجزع والضجر لا يضر إلا نفسه ، والصبر مثل اسمه مُرٌ مذاقه ، لكن عواقبه أحلى من العسل ، وتذكر أن الملائكة تقول لأهل الجنة ] سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ فالتمكين لا يكون إلا بالصبر كما قال تعالى ]وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ[ ولا إمامة في الدين إلا بالصبر ، كما قال تعالى ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ والصبر من الأعمال التي لا يقدر قدر ثوابها إلا الله تعالى ] إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [ وبالصبر يضاعف الخير في الدنيا قبل الآخرة ، كما قال تعالى بعد ذكره لقصة نبيه أيوب عليه السلام ]وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ وبالصبر يعرف العبد قدر نعمة الله تعالى عليه فلا يكفرها ، كما قال تعالى ] وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ وقال تعالى ] وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [ والداعية وإن سخر به واستخف بحاله وأهين بالسجن والتعذيب والضرب بالسوط فالعاقبة له ، وأقسم بالله أن العاقبة له ، كما قال تعالى ] إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [ والصبر أصل من أصول التقوى ، ولكن الصبر قليل في الناس ، ولا يؤتاه إلا الموفقون ممن أراد الله تعالى بهم خيرا ، فالصبر أجمل لباس يلبسه الله تعالى الداعية عند حلول البلايا ، ومن لا صبر له فقد آن أوان انقطاعه وتلفه ، ووالله ما وجد الصالحون حلو عيشهم إلا في الصبر ، ولأهمية الصبر فقد ذكره الله تعالى في أكثر من اثنين وثمانين موضعا ، وما ذلك إلا لأن الصبر بمنزلة البيت الذي يحتمي به الإنسان من حر البلاء وزمهرير الفتنة ، والله المستعان ، الخامس :- احتساب الأجر ، وهو مرتبة فوق الصبر ، والمراد به الصبر على المصيبة رجاء ثبوت الأجر الوارد فيها أو في الصبر عليها على وجه العموم ، فإن من الناس من يصبر عل المصيبة لعجزه عن مقاومتها ولكن على مضض من أمره ، ولكن من الناس من يصبر على البلاء علما منه بعظيم منزلة الصبر رجاء ثواب الله تعالى الذي وردت به الأدلة مع رضاه ربه وأنه لا يختار له إلا ما هو أصلح له ، فهذا عنده صبر واحتساب ، فلا تراه يكثر الشكوى إلا لله تعالى ، وتراه كثير الحمد والشكر لربه ،وهذا هو المثاب عند حلول المصائب ، فلا مخرج لما يصيب الداعية من الآلام والنكبات إلا بالصبر واحتساب الأجر السادس :- تحقيق كمال الرضا عن الله تعالى ، مقرونا بكمال الحمد وكمال الشكر ، وهي من أعلى المراتب السامية ، ولا تجدها على الحقيقة باطنا وظاهرا إلا عند آحاد العارفين بالله تعالى ، فمرتبة الحمد والرضا والشكر لا يوفق لها إلا عباد الله المخلصين ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياك منهم ، السابع :- التسلي بالأوراد الشرعية ، كقول ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) وقول (اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ) وقول ( قدر الله وما شاء فعل ) ونحوها مما ورد من الأقوال عند حلول المصيبة ، فإنها برد اليقين على الأرواح والدواء من كل داء ، والمهم أيها الداعية الكريم أنه لا بد وأن تعلم أنك لا بد وأن تبتلى ، وقليل من يسلم من البلاء ، فإن ابتليت فتعامل مع البلاء بما ذكرته لك ، وفي الحقيقة لا أعلم نبيا ولا رسولا لم يبتل ، ولا أعلم عالما له في الأمة قدم صدق إلا وقد ابتلي ، هذا أمر لا بد منه ، فقد ابتلي نوح بقومه ، وبموت ولده وفلذة كبده أمامه ،وابتلي بزوجته الكافرة ، وابتلي يوسف بأن ألقاه أحب الناس له في البئر ،وابتلي بالسجن والغربة ، وصور الابتلاء لا تنتهي ، فابتلوا بالتكذيب والرمي بالأوصاف القبيحة ، وبالقتل والطرد ، وبالتعذيب والنكال ، وابتلي الصحابة في الله تعالى بلاء عظيما لا يوصف هوله ،فمنهم من كان يلقى في رمضاء مكة على ظهره ويوضع الحجر الكبير على صدره وابتلي آل ياسر في الله أعظم البلاء حتى ماتت سمية بنت خياط أم ياسر أمام عيني زوجها وولدها بحربة أدخلها الملعون في مكان عفتها ، ومات ياسر أبو عمار أمام عيني ولده من التعذيب ،وكان بعضهم يلبس الحديد في الحر ويقلب فيها في حر الرمضاء حتى يكون الحديد كالجمر ، وأما السوط فقد كان له دوره الكبير في ظهور أهل العلم رحمهم الله تعالى ، ولكنهم صبروا على ما أوذوا وثبتوا على منهجهم بفضل الله تعالى ، فأين أنت منهم أيها الداعية المبارك ، ومن باب التنبيه أنقل لك جملا من ابتلاء السلف الصالح حتى ترى كيف كانت أحوالهم ، رحمهم الله تعالى ، فأقول وبالله تعالى التوفيق :-
فمنها :- أصيب عروة بن الزبير رحمه الله في قدمه؛ فقرر الأطباء قطعها، فقطعت , فما زاد على أن قال "اللهم لك الحمد فإن أخذت فقد أبقيت، وإن ابتليت فقد عافيت" فلما كان من الغد ركلت بغلةٌ ابنه محمداً - وهو أحب أبنائه إليه ، وكان شاباً يافعاً - فمات من حينه، فجاءه الخبر بموته، فما زاد على أن قال مثل ما قال في الأولى، فلما سُئِل عن ذلك قال "كان لي أربعة أطراف فأخذ الله مني طرفاً وأبقى لي ثلاثة، وكان لي سبعةٌ من الولد فأخذ الله واحداً وأبقى لي ستة . وعافاني فيما مضى من حياتي ثم ابتلاني اليوم بما ترون، أفلا أحمده على ذلك ؟!" .هكذا كانوا رضي الله عنهم أجمعين، وألحقنا بهم في فسيح جناته. فهلاَّ تشبَّهنا بهم .
ومنها :- يروى عن عمر الفاروق رضي الله عنه أنَّه كان يكثر من حمد الله على البلاء، فلما سُئِل عن ذلك قال "ما أُصبت ببلاءٍ إلاَّ كان لله عليَّ فيه أربع نعم : أنَّه لم يكن في ديني، وأنَّه لم يكن أكبر منه وأنِّي لم أُحْرَم الرضا والصبر، وأنِّي أرجو ثواب الله تعالى عليه .
ومنها :- ما جرى للإمام أحمد رحمه الله تعالى في فتنة القول بخلق القرآن ، فقد جرت عليه أمور كثيرة من الجلد بالسياط والحبس ، والتهديد بالقتل ، على أن يقول بخلق القرآن فأبى ، فعذب في الله تعالى أشد العذاب ، وتكسرت على ظهره السياط تلو السياط ، وكان يحمل مغمى عليه ، قد هانت عليه نفسه في الله تعالى ، وتالله إنه لإمام أهل السنة والجماعة بحق .
ومنها :- ما جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، فقد أصابته الفتن من كل جانب ، وهو كالجبل الأشم في وجهها بفضل الله تعالى وتثبيت منه جل وعلا ، والله ما ضرته منها فتنة ، ولكنه الجور والظلم التي يفت الكبود ، فسجن ، وطرد ، وهدد بالقتل مرات ، وهو المؤمن الصابر المحتسب ، فكم له من صولات وجولات مع أهل النفاق والبدعة والزندقة ، لا يخاف من سلطان جائر ولا سيف مسلول ولا سوط لاسع ، جنته وبستانه في قلبه ، إن قتل فشهادة ، وأن نفي فسياحة ، وإن حبس فخلوة بالله تعالى ، وهكذا العلماء ، تحزب له أهل البدع ووشوا به إلى سلاطين الجور ، وجمعوا له الجموع فكان أبو العباس يدك عروش بدعتهم على صخرة الحق ، فلا يجدون تجاهه إلا سلاح فرعون مع موسى عليه السلام " لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين " إنه التهديد عند انقطاع الحجة وانسداد الطريق على أهل الأهواء والضلال ، فصبر واحتسب الأجر وثبت على منهجه حتى لقي ربه وهو في سجن القلعة ، ثبات حتى الممات ، فالفتن لا مفر للعالم الصادق منها ، والله تعالى هو مولانا فنعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
والخلاصة :- أن الابتلاء سنة ماضية، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن قل دينه قل بلاؤه، وأشد الناس ابتلاء هم الأنبياء عليهم السلام، والواجب عند نزول البلاء هو الصبر والرضا وعدم التسخط، فمن صبر ورضي أجر على مصيبته، وكفر بها من سيئاته، ومن سخط وقعت عليه مصيبته، ولم يؤجر عليها، وليعلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، والمرءَ بحاجةٍ إلى تمحيصٍ ومراجعةٍ حتى يتميَّزَ الخبيثُ من الطيبِ، والمؤمنُ من غيره؛ فالسعيدُ من اعتصم بالله، وأناب ورجعَ إلى الله والمؤمنُ الصادقُ ثابتٌ في السراءِ والضراءِ، لكن لا بد وأن تعلم أن البلاء يكفر السيئات ، ويرفع الدرجات وهذا هو مبتغى الدعاة ، وعفو الله أوسع . إن الصبر كما أنه من عوامل نجاح الدعاة هو أيضًا زادهم وعدتهم به تزكو نفوسهم وتطهر أفئدتهم ، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الصبر والإنابة ، واعلم أن النصر إنما هو لمن اتقى وصبر ، فشمر أخي الداعية عن ساعد الجد وارض بما قسم الله تعالى ، واصبر وصابر واجتهد وجاهد ، والله مع الصابرين بمعيته الخاصة ، والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .
(1) حديث صحيح , رواه مسلم رقم (2653) في القدر ، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام ، والترمذي رقم (2157) في القدر باب رقم (18) برواية " قدر الله المقادير..." وأحمد (2/169) (6579) .
(2) حديث صحيح , أخرجه مالك (الموطأ) (561) .وأحمد (2/110) (5893م) والبخاري في خلق أفعال العباد (17) موقوفاً .
(1) أخرجه الإمام أحمد رقم (2669) و (2763) و (2804) والترمذي رقم (2518) في صفة القيامة ، باب رقم (60) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
(2) رواه مسلم (4/2052) (2664)، وابن حبان (13/29) (5722)، وابن ماجه (1/31، 2/1395) (79، 4168)، والنسائي في "الكبرى" (6/159، 160)، وأبو يعلى (11/124) (6251).
(3) حديث صحيح , أخرجه مسلم رقم (2999) في الزهد ، باب المؤمن أمره كله خير , والإمام أحمد (4/332) .
التعليقات