القاعد الثلاثون :- الخلاف في الأمور الاجتهادية لا يفسد للود قضية .
أقول :- إن الخلاف قسمان : خلاف في المسائل العلمية ، وخلاف في المسائل العملية ، ونعني بالمسائل العلمية أي مسائل العقيدة ، ونعني بالمسائل العملية أي المسائل الفقهية ، والقاعدة هذه لا شأن لها بالخلاف العقدي ، وإنما لها شأن بالخلاف الفقهي ، وأنت بارك الله تعالى فيك خبير بأن المسائل العملية الشرعية لا تخرج عن ثلاثة أقسام :- إما مسائل متفق عليها بين أهل العلم رحمهم الله تعالى ، فهذه يجب علينا اتباع الإجماع فيها ، فالإجماع حجة شرعية يجب قبولها واعتمادها والمصير إليها وتحرم مخالفتها ،ويجب أن ينكر على المخالف فيها ، بل لقد قرر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن من خالف الإجماع القطعي المعلوم من الدين بالتواتر والضرورة فإنه يكفر بذلك ، وهذا القسم لا شأن لقاعدتنا به كذلك ، والقسم الثاني :- مسائل ثبت الخلاف فيها والدليل ينصر أحد القولين نصرا ظاهرا فهذه يجب الأخذ فيها بمقتضى الدليل ، ولا تجوز مخالفته ، ويجب الرجوع عن القول المخالف لظاهر الأدلة ، كالخلاف في ستر وجه المرأة وفي الاختلاط وفي حكم صلاة الجماعة ، ونحوها فالدليل فيها دليل ظاهر في أحد القولين ، فهذه المسائل وإن كانت خلافية إلا أن الواجب فيها متابعة الدليل ، لأن الدليل ظاهر في أحد القولين ، وهذه المسائل لا تدخل معنا في القاعدة كذلك ، والقسم الثالث :- المسائل الاجتهادية ، وهي المسائل التي ثبت فيها الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى ، ولكن الدليل محتمل لكلا القولين ، كمسألة النزول في السجود ، هل هو على الركبة أو اليدين ، ونحوها من المسائل ، فهذه المسائل هي التي تدخل في قاعدتنا ، وعلى ذلك فأقول : لا يدخل معنا في هذه القاعدة ، الاختلاف في المسائل العقدية ، ولا المسائل المجمع عليها ، ولا المسائل الخلافية التي كان الدليل فيها ناصر لأحد القولين ، وإنما هي تخص المسائل الاجتهادية فقط ، فالخلاف في المسائل الاجتهادية لا يجوز أن يكون سببا لتنافر القلوب واختلاف البواطن ، ولا أن نعقد عليها الولاء والبراء ولا أن تكون سببا للوقيعة في أعراض إخواننا من الدعاة ، ولا أن تكون مسبة للمخالف ، بل الواجب على كل أحد أن يتعبد لله تعالى بما ظهر له من هذه المسائل أنه الراجح ، ويعذر بعض المجتهدين بعضا فيما اختلفوا فيه ، ولا يحل لأحد أن يلزم الناس بقبول رأيه ، ولا أن يحمل الناس على قوله ، بل الواجب طلب العذر ، وأن تبقى محبة الدين والإيمان فيما بيننا ، فالخلاف في هذه المسائل إنما يكون خلافا في الظاهر فقط ، فلا يجوز أن يتعدى الظاهر ، وأما إذا نفذ للقلب ، وصار عقدا للولاء والبراء والقدح والتثريب ، فناهيك عن المفاسد الكبيرة الخطيرة التي تترتب على ذلك ، فالله الله أيها الحبيب بسعة الصدور وطلب الأعذار لإخواننا الذين يخالفوننا في الرأي في مثل تلك المسائل ، وعلى ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه ، فإنه قد ثبت خلافهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم في كثير من المسائل الشرعية الاجتهادية ، ومع ذلك فلا تزال أخوة الإيمان بينهم قائمة ،والمحبة بينهم وافرة ، لا يبطلها خلاف ، ولا يزيلها نقاش أو حوار ، فالنفوس سليمة والصدور سليمة ، لأنه كان قصد القوم هو طلب الحق ، فمتى ما ظهر الحق لهم وافقوا القائل به ، وأخذوا بقوله ، فلا تثريب ولا قدح ولا سب ولا شتم ، ولا اتهام للنيات ، ولا نيل من الأعراض ، وأما الحال في الأزمان المتأخرة فالله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، روى البخاري بسنده عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما رجع من الأحزاب " لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم:- لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم :- بل نصلي لم يرد ذلك منا فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم(1) . ووجه الاستشهاد به هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف على أي من الطائفتين ، لأن المسألة اجتهادية وهي خاضعة للنظر والتأمل ، فكل تعبد لله تعالى بما أداه إليه اجتهاده ، ولا تزال القلوب متفقة والنفوس مطمئنة ، والنبي صلى الله عليه وسلم ترك كل واحدة من الطائفتين على ما رأته أنه هو الراجح ، ولا ينكر على واحدة منهن ، لأن الأمر محتمل وفي الحديث "كُنَّا نسافِر مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم, فمنَّا الصائم، ومنَّا المفطرُ، فلا يجدُ المفطر على الصائم ، ولا الصائمُ على المفطر ، وكانوا يَرَوْنَ : أَنَّه مَنْ وَجدَ قُوَّة فصام ، فَحَسَن ، وَمَنْ وَجدَ ضَعفا فَأفْطَرَ ، فَحَسَن" وفي رواية النسائي قال "كُنَّا نُسَافِرُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فمنَّا الصائمُ ، ومنَّا المفطر ، فلا يَعِيبُ الصائمُ على المفطرِ ، ولا المفطرُ على الصائم"(2) وهذا من سعة الأفق واتساع الصدر وتربية الناس على الاجتهاد والنظر في المسائل ، وليت أهل زماننا يدركون هذا الأدب الرفيع ، فإنه ما إن يخرج مجتهد بقول ليس هو القول الذي عليه الفتوى في البلد ، مع أن المسألة اجتهادية ، إلا وتفوق له سهام الاتهام والقدح واتهام النية ، وأنه لا يريد إلا كيت وكيت ، ويريد فتنة العامة ،وإثارة الغوغاء والدهماء والرأي العام ويريد إسقاط هيبة أهل العلم ، إلى غير ذلك من الاتهامات التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، وإنما هو التسلط والقهر ، وإذلال الناس ، وطالب العلم إن نشأ في هذه الظروف فإنه إن لم يكن قوي الشكيمة قوي النفس ، وإلا فسينكسر ويترك الطريق من أوله ،أو سيكون متابعا لغيره فيما يقول طلبا للسلامة من القدح وتوجيه سهام النقد اللاذع ،وهذا أمر لا يجوز نعم ، هناك أمور مسلمة متفق عليها في الشريعة ، ولكن نحن لا نبحث في هذه المسائل ، فقولنا فيها معروف ولله الحمد والمنة ، ولكننا نتكلم عن ترك المجتهدين وما يرونه في المسائل الاجتهادية وعدم سد الأبواب في وجوههم أو التضييق عليهم بلا حجة ولا برهان ، وكم ، وكم من الكلمات التي سمعناها وسمعها غيرنا من هذا القبيل ، ولكن لا شأن لنا بأحد ، فالمعتمد عندنا هو الدليل ، ولو خالف فيه من خالف ، وعلى هذه النظرة نربي طلابنا ، مع كبير التوصية لأنفسنا ولطلابنا بالتواضع للحق والخلق واحترام العلماء وعدم الحط من شأنهم ، والتأدب بآداب الخلاف فيما بين أهل العلم وطلابه ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه :- أنهم كانوا جُلُوسا ، فذكروا ما يُوجب الغسل ، فاختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار ، فقال الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا من الدَّفقِ ، أو من الماء ، وقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل ، قال أبو موسى : فأنا أشْفِيكم من ذلك ، قال : فقمت فاستأذنت على عائشة ، فأُذِن لي ، فقلت لها : يا أُمَّاهُ - أو يا أمَّ المؤمنين - إني أريد أن أسألكِ عن شيء ، وإني أسْتَحييكِ ؟ فقالت : لا تستحيي أن تسألَني عما كنت سائلا عنه أمَّك التي ولدتك ، فإنما أنا أُمُّك ، قلتُ : فما يُوجب الغسل ؟ قالت : على الخبير سقطتَ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جلس بين شُعَبها الأربع ، ومَسّ الخِتانُ الختانَ، فقد وجب الغسل " أخرجه مسلم. وفي رواية الموطأ : أن أبا موسى أتى عائشةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال لها : لقد شَقَّ عليَّ اختلافُ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أمر ، إني لأعْظِمُ أن أسْتَقْبِلَكِ به فقالت: ما هو ؟ ما كنت سائلا عنه أمَّكَ فاسألني عنه ، فقال : الرجل يُصيب أهلَه ، ثم يُكْسِلُ ولا يُنزِل ؟ فقالت : إذا جاوز الخِتانُ الختانَ ، فقد وجب الغسل ، فقال أبو موسى الأشعري : لا أسأل عن هذا أحدا بعدكِ أبدا (1). والشاهد أن الصحابة مع ثبوت الخلاف بينهم في هذه المسألة ، إلا أنهم كانوا يطلبون الحق فيها ، والقلوب لا تزال على صفائها والنفوس لا تزال على نقائها ، فهو مجرد خلاف في الظاهر فقط ، ولم ينفذ للقلوب ، وهذا هو عين ما نريده من أحبتنا من طلبة العلم ، لقد اختلف الأئمة في كثير من الأمور الاجتهادية، كما اختلف الصحافة والتابعون قبلهم، وهم جميعا على الهدى ما دام الاختلاف لم ينجم عن هوى أو شهوة أو رغبة في الشقاق، فقد كان الواحد منهم يبذل جهده وما وفي وسعه ولا هدف له إلا إصابة الحق وإرضاء الله جل شأنه، ولذلك فان أهل العلم في سائر الأعصار كانوا يقبلون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية ماداموا مؤهلين، فيصوبون المصيب ويستغفرون للمخطئ، ويحسنون الظن بالجميع ، بل لقد كان في الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ومن بعدهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرأها ومنهم من يجهر بها ومنهم من يسر، وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت فيها، ومنهم من يتوضأ من الرعاف والقيء، والحجامة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يرى في مس المرأة نقضا للوضوء ومنهم من لا يرى ذلك ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل أو ما مسته النار مسا مباشرا، ومنهم من لا يرى في ذلك بأسا، وهكذا كان سلفنا الصالح ، يختلفون في بعض المسائل ولكن خلافهم لا يفسد قلوبهم ولا يعكر صفو أخوتهم الإيمانية ، ولا يزيل مفهوم المحبة الدينية ، ولا يكون سببا للوقيعة في بعضهم بالقدح والثلب والتثريب ومن المقرر في القواعد أن الحق يقبل ممن جاء به ،وأن الباطل يرد ممن جاء به ، فقد كانوا يقبلون الحق حتى وإن جاء به من هو أصغر منهم في العلم والسنة والإيمان ، ويردون البطال ممن جاء به وإن كان يفوقهم في العلم والدين والإيمان ، فالحق لا يعرف بالرجال ، وإنما يعرف الرجال بالحق ،وقد يفتح الله تعالى على قليل العلم وصغير السن ما لا يفتحه على الكبير العالم ، والفضل فضل الله تعالى ، فالحق أيها الأحبة لا يعرف بالسن ولا بالشهادة ، ولا بالمناصب ، ولا بالقرب من ولاة الأمر أو البعد عنهم ، بل الحق يعرف بموافقة الدليل كتابا وسنة ، وحيث كان الأمر كذلك فلم التراشق بالتهم في الخلاف الاجتهادي الخاضع للنظر والتأمل ، ولم القدح في الأعراض ولم الثلب في النيات ، ولم إهانة الطلاب بما لا يسوغ من الألفاظ ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، قال صاحب كتاب أدب الخلاف في الإسلام (فالخلاف بين سلف الأمة وأئمتها لم يمنع من أن يصلي بعضهم خلف بعض كما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأئمة آخرون يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم ولو لم يلتزموا بقراءة البسملة لا سرا ولا جهرا، وصلى الرشيد إماما وقد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد الصلاة مع أن الحجامة عنده تنقض الوضوء.وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل يصلى خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب . وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريبا من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت والقنوت عنده سنة مؤكدة فقيل له في ذلك، فقال : أخالفه وأنا في حضرته. وقال أيضا: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق. وكان مالك رحمه الله أثبت الأئمة في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسنادا، وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبدالله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة رضوان الله عليهم أجمعين، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى وقد حدّث وأفتى رضي الله عنه، وألف كتابه «الموطأ» الذي ترخى فيه إيراد القوي من حديث أهل الحجاز، كما نقل ما ثبت لديه من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وبوّبه على أبواب الفقه فأحسن ترتيبه وأجاد، وقد اعتبر «الموطأ» ثمرة جهد الإمام مالك لمدة أربعين عاما، وهو أول كتاب في الحديث والفقه ظهر في الإسلام وقد وافقه على ما فيه سبعون عالما من معاصريه من علماء الحجاز، ومع ذلك فحين أراد المنصور كتابة عدة نسخ منه، وتوزيعها على الأمصار، وحمل الناس على الفقه الذي فيه حسما للخلاف كان الإمام مالك أول من رفض ذلك، فقد روي عنه أنه قال: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فان الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وأتوا به من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم. فقال الخليفة : وفقك الله يا أبا عبدالله ... فأي رجل هذا الإمام الجليل الذي يأبى أن يحمل الناس على الكتاب الذي أودع فيه أحسن ما سمع من السنة وأقوى ما حفظ وأدرك من العلم الذي لا اختلاف فيه عند أهل المدينة وذلك الحشد من علماء عصره ) فهذا الأدب الجم الكبير لا يوفق له إلا الموفقون الملهمون ممن أراد الله تعالى به خيرا ،وهو ثمرة العلم الصحيح المؤصل على هدي السلف الصالح ، فالعلم الذي لا يثمر لصاحبه الأدب والتقوى والتواضع ليس في الحقيقة من العلم النافع ، ففي الحقيقة أن إثارة الخلاف بين المسلمين، أو تنمية أسبابه خيانة عظمى لأهداف الإسلام، وتدمير لهذه الصحوة المعاصرة التي أحيت الأمل في النفوس، وتعويق لمسيرة الإسلام، وتشتيت لجهود العاملين المخلصين لا يرضي الله جلّ شأنه، ولذلك فإن من أكثر وأهم واجبات المسلمين اليوم عامة والدعاة منهم خاصة بعد الإيمان بالله تعالى: العمل على توحيد فصائل حملة الإسلام ودعاته والقضاء على كل عوامل الخلاف بينهم، فإن كان لا محالة فليكن في أضيق الحدود، وضمن آداب سلفنا الصالح، ولا يمنع اختلاف الآراء من التقاء القلوب لاستئناف الحياة الإسلامية الكريمة ما دامت النية خالصة لوجه الله تعالى، وعندها فلن يعدموا التوفيق والتأييد من الله ومن المعلوم بارك الله تعالى فيك أن من أصول الإسلام الحث على التقارب والتآلف ، وسد أبواب التنافر والتخالف ، فكل سبب يفضي إلى التنازع واختلاف القلوب فالشريعة سدته وأحكمت سده فحرمت الغيبة والنميمة والكذب واللعن وفحش القول والفعل وحرمت بيع المسلم على بيع أخيه وشراءه على شراء أخيه ، وخطبته على خطبة أخيه ، وحرمت الظلم والقهر ومنع أصحاب الحقوق من حقوقهم وأمرت بالعدل والإنصاف إلى غير ذلك من الحكام المقررة في الشريعة ، فإنك تجدها في الأعم الأغلب يراد بها بقاء القلوب متفقة مؤتلفة لا متنافرة مختلفة ، فالأصل الأصيل في الدين هو الحث والترغيب والأمر بالاجتماع والائتلاف والتحذير من زيغ القلوب والفرقة والاختلاف ، ومن أسباب الخلاف بيننا هو جعل المسائل الاجتهادية أصلا للولاء والبراء والقدح والتثريب ، وهذا أمر لا يحل ، فعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يبينوا للناس أدب الاختلاف وأن يوصوا الناس بإحياء مبدأ الأخوة الإيمانية والرابطة الشرعية وعلى العلماء وفقهم الله تعالى لكل خير أن يعذروا المخالف لهم في المسائل الاجتهادية وأن لا يثرب بعضهم على بعض فيما اختلفوا فيها منها ، قال تعالى ] وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [ ] وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [ أي قوتكم وجماعتكم ونصركم ] وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ وقال تعالى ] أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ والأوامر بالاعتصام بحبل الله تعالى وإقامة دينه مقرونة بنواهٍ عن التفرق والنزاع مع التنبيه إلى النتائج الحتمية المتمثلة في الفشل الذي يعنى العجز عن الوصول إلى غاية معينة وهنا فشل الأمة وعجزها عن القيام بوظيفتها في هداية البشر والخلافة الراشدة في الأرض ]وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ[ وقد بين عليه الصلاة والسلام ذلك خير بيان ، وهو المبين للذكر المبلغ للوحي في نواه صريحة " لا تقاطعوا وتدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً "(1) وأمرت الشريعة بإصلاح ذات البين ، وحذرت من فسادها قال الله تبارك وتعالى ] فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [ وقال تعالى ] لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [ وقال تعالى ] وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [ وحديث " ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله تعالى " أخرجه مسلم من حديث أنس وفي حديث أبي هريرة " لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا " وخرج أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء عنه عليه السلام " ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟" قالوا بلى يا رسول الله قال " إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة "(1) ولا نعني بهذا الكلام أنه لا بد وأن تتفق الأمة على قول واحد في كل المسائل الاجتهادية ، فإن هذا متعذر بل الخلاف واقع ، والخلاف فيها سائغ ، ولكن الذي ندعو له هو التأدب بأدب الخلاف عند حصوله ومن أعظم آدابه طلب الحق وطلب العذر للمخالف ، وصفاء القلوب بعده ، وأن لا يكون سببا للتدابر والتطاعن والتشاحن وكتابة التقارير السرية لولاة الأمور ، وأن لا يكون سببا لهضم حقوق الناس والنيل من أعراضهم والقدح فيهم والتثريب عليهم ، وأن لا يكون سببا للتنقص منهم وإبعادهم عن مناصبهم فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
(1) رواه البخاري 7 / 313 في المغازي ، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ، وفي صلاة الخوف ، باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً ، ومسلم رقم (1770) في الجهاد ، باب المبادرة بالغزو , وابن حبان (4/320، رقم 1462) .
(2) رواه مسلم رقم (1116) و (1117) و (1120) في الصيام ، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل ، وأبو داود رقم (2406) في الصوم ، باب ما جاء في الرخصة في السفر ، والترمذي رقم (712) و (713) في الصوم ، باب ما جاء في الرخصة في السفر ، والنسائي 3 / 188 و 189 في الصوم .
(1) رواه مسلم رقم (349) في الحيض ، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين ، والموطأ 1 / 46 في الطهارة ، باب واجب الغسل إذا التقى الختانان ، والترمذي رقم (108) و (109) في الطهارة ، باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل .
(1) رواه البخاري 9 / 171 في الأدب ، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر ، ومسلم رقم (2563) في البر والصلة ، والموطأ 2 / 907 و 908 في حسن الخلق ، وغيرهم
(1) أخرجه الإمام أحمد (45/500) رقم ( 27508) والترمذي في جامعه , وأبي داود في سننه , وأيضاً البزار في البحر الزخار , وقد صححه الألباني في غاية المرام
التعليقات