القاعدة الواحدة والثلاثون :- اهتمام الداعية بزاد روحه بالازدياد والترقي في مدارج العلم والتعبد موجب للاستمرار والعطاء .
أقول :- إن الأمر في الدعوة لا بد فيه من التوازن ، فالداعية الذي يفقد مبدأ التوازن لا بد وأن يكون عنده خلل في أمر دعوته ، طال الزمان أو قصر ، ولذلك فقد حرص القرآن على بيان منهج الأنبياء في الدعوة والتعبد ، فمن التوازن أن يكون الداعية حريصا على أمرين : الأول :- أن يكون حريصا على أمره في خاصة نفسه من تصحيح التعبد لله تعالى ، والازدياد من الخير من قيام الليل والصدقة والتزود من زاد التقوى بشتى أنواع التعبد المشروعة ، من كثرة الذكر والحمد والثناء لله تعالى ، ولذلك فإنك تجد ربنا جل وعلا في كتابه الكريم إذا ذكر أعمال الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى مباشرة يقرنها الله تعالى بأعمالهم وتعبداتهم في خواص أنفسهم ، كما قال تعالى عن نوح ، بعد ذكر ما جرى بينه وبين قومه قال ] إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [ فكأن قوله تعالى {عبدا شكورا} سيقت مساق التعليل ، فشكره لله تعالى له دوره الكبير على الصبر على الدعوة ، ومعاناة قومه فيها ، وقال تعالى عن داود عليه السلام ]وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ[ والأواب هو كثير التوبة والرجعة إلى الله تعالى ، مع أنه من الأنبياء ، ولكن الله تعالى لم يذكر نتائج دعوته ، وإنما ذكر اهتمامه بزاد روحه ، مما يفيد أهمية زاد الروح للداعية ، وقال تعالى عن سليمان ] وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ وقال تعالى عن أيوب ] وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ [ وهذه أنواع من العبادات اهتم بها نبي الله أيوب ، فصارت زادا لروحه وصبره على بلواه ، وقال تعالى عنه في موضع آخر ] وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [ وقال تعالى عن بعض أنبيائه ] إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [ فإذا كان أنبياء الله تعالى في حاجة كبيرة لزاد أرواحهم في الترقي في مجالات التعبد والتقوى والاتصال بالله تعالى ، وأن لهذا الأمر العظيم دوره الكبير في صبرهم وجهادهم في الدعوة ، وأن الله تعالى أبرز هذا الجانب المهم في حياتهم ، ونبه عليه ، دل ذلك كله على أنه لا بد وأن يهتم الداعية به الاهتمام الكامل ، وأن لا ينسى روحه وقلبه من التعبد وتقوية الاتصال بالله تعالى بكثرة ذكره وحمده وشكره ، وأن يحرص على أن يجعل بينه وبين الله تعالى عبادات لا يعلم بها أحد من الخلق ، لأنه هذا أدعى للإخلاص ، فكلما ترقى الداعية في مدارج التعبد والتقوى وكان حريصا على تقوية الصلة بربه جل وعلا ، كلما كانت قواه في الدعوة متجددة ، وعزيمته على الاستمرار بإذن الله تعالى قوية ، ولا يهمه تكذيب المكذبين ولا قدح القادحين ولا تثبيط المثبطين ، بل لا تراه إلا ويمضي قدما في سبيل دعوته ويبذل فيها الغالب والنفيس ، بل إنك تراه يستحلي العذاب والصعوبات التي تواجهه في دعوته ، بل إن حسن الصلة بالله تعالى وقوتها سبب إن شاء الله تعالى لقبول القلوب واستجابة المدعوين ، لأن من تقرب إلى الله تعالى بما افترضه وندب له فإن الله تعالى يحبه ، وإن الله إذا أحب عبدا نادى :- يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل :- يا أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ، فإذا كان الداعية بهذه المثابة فناهيك عن استسلام القلوب لدعوته ، واستعذاب الآذان لمقولته ، وطرب النفوس للجلوس معه ، فالله الله أيها الداعية بالحرص على زاد الروح ، وإن خير الزاد التقوى ، بل التقوى هي خير اللباس وخير البناء وخير الزاد، قال تعالى ] أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [ وقال تعالى ] وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [ وقال تعالى ] وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [ وكذلك التزود من العلم ، أمر لا بد منه للداعية ، فإنه إن كان يصدر فقط ولا يستورد ولا يزداد من العلم فإنه سينقطع في يوم ما ، ولذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعاء من التزود من العلم فقال تعالى ] وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [ فأمره الله تعالى بأن يدعوه بان يزيده من العلم فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر بالازدياد من العلم ، فكيف بغيره من الدعاة ؟ لا جرم أنهم مأمورون به من باب أولى ، قال الطبري رحمه الله تعالى (يقول تعالى ذكره: وقل يا محمد: ربّ زدني علما إلى ما علمتني أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم ) وقال ابن عُيَيْنَة، رحمه الله ( ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة من العلم حتى توفاه الله عز وجل ) وللترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم انفعني بما علَّمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا، والحمد لله على كل حال "(1) وقال عليه الصلاة والسلام " لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " رواه أبو داود(2) ، فأعظم زاد للداعية إلى الله تعالى هو العلم المثمر للتقوى والعمل والتعبد الصحيح ، ولذلك فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل بقوله تعالى ]يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا[ فأمره هنا بأنواع من التعبدات ، لأنه سيلقي عليه قولا ثقيلا ، ولا يتمكن من تحمله إلا بالتزود من العبادة ، ولعل مرادي قد اتضح إن شاء الله تعالى ، فليس هناك سقف علمي أو تعبدي إذا وصل له الداعية قال : هنا محط الرحال ، لا ، بل لا يزال الداعية إلى الله تعالى في الترقي في مدارج التعبد والتقوى والتعلم والتعليم حتى يتوفاه الله تعالى ، نسأل الله تعالى أن يعيننا على تحقيق هذا الأمر ، ولذلك فقد كان أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى يجلس في مصلاه من بعد صلاة الفجر إلى اشتداد الضحى ، ويقول : هذه غذوتي ، لو لم أتغذاها لخارت قواي . أو كما قال رحمه الله تعالى, وقال تعالى ] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ َاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ فلا طريق لتحمل أعباء الدعوة والصبر عليها إلا بالتعبد والصبر ، فإن هذا هو زاد الأرواح ، والأبدان التي لا تتغذى أرواحها بمثل هذا النوع من الغذاء فأنها ستخور قواها وتذهب مع الريح عزائمها ، فالازدياد من العلم والتقوى والتعبد الصحيح من أعظم الأسباب التي يكون بها التوفيق والثبات بإذن الله تعالى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " العبادة في الهرج كهجرة إلي "رواه مسلم(1). والمراد بالهرج أي الفتنة واختلاط الأمور ، وقبل أن يرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى فرعون قال له ] أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [ وإننا لنشكو إلى الله تعالى من حال بعض الجماعات التي لا تأبه بالعلم ، ولا تحض أتباعها عليه ، ولا ترغبهم فيه ، ولا تنظر إلى أهله بنظرة التقدير والهيبة والاحترام وهي مع ذلك تأمر أتباعها بالدعوة إلى الله تعالى وبالخروج في سبيل الله تعالى ، مع أن الأفراد الجدد في الدعوة لم يأخذوا الحظ الوافر من العلم ، وهذا أمر فيه نظر ، بل فيه من الخطر ما فيه ، فإن الخلل في الدعوة لا يخلو إما أن يكون سببه ضعف العلم ، أو ضعف التعبد وتصحيح القصد ، ولكن إن صح القصد وحرص الداعي إلى الله تعالى على الازدياد من العلم والتعبد فإنه في الأعم الأغلب سيكون حليفا للتوفيق والنجاح والثبات ، والله من وراء القصد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وهو أعلى وأعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
(1) أخرجه الترمذي رقم (3593) في الدعوات , ابن ماجة رقم (251) في المقدمة , من حديث موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه . وقال الحافظ في " التقريب " : محمد بن ثابت عن أبي هريرة مجهول , وإسناده ضعيف فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو منكر الحديث .
(2) أخرجه أبو داود قم (5061) في الأدب ، باب ما يقال عند النوم ، وفي سنده عبد الله بن الوليد بن قيس التجيبي البصري ، وهو لين الحديث كما قال الحافظ في " التقريب " والحديث ضعفه الألباني .
(1) أخرجه مسلم في الفتن و أشراط الساعة (2948) , والترمذي : في الفتن (2201) , وابن ماجه أيضاً في الفتن (3985).
التعليقات