القاعدة الخامسة والثلاثون والسادسة والثلاثون :- الدعوة إلى الله تعالى لا تحد بزمان دون زمان ولا بمكان دون مكان .وعطاء الداعية لا يحد بزمن ما دام حيا قادرا .
أقول :- هما قاعدتان متقاربتان ، فشرحهما سيكون واحدا فأقول : لقد دأب أنبياء الله تعالى بالدعوة إلى الله تعالى في كل وقت ، وعلى كل حال ، كما قال تعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام ] إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [ فقد بذل نبي الله نوح عليه السلام حياته ووقته وجهده في الدعوة إلى الله تعالى ، فكانت دعوته هي الهاجس الذي يقلقه ، والشغل الذي امتلأ به قلبه ، فلا يصرفه عنها تكذيب ولا سخرية ولا رد ولا صدود ، وإنما هو العزم الذي لا يفتر ، وجذوة النور في همة لا تنطفي ، فكان يغشى قومه في الليل والنهار بالدعوة إلى الله تعالى ، وكان ينوع الدعوة عليهم سرا تارة وجهرا تارة ، فماذا بقي من حياة نبي الله نوح لم يسخره في خدمة دينه ودعوته ؟ لا جرم أنها همة قد فاقت الحدود ، وانظر إلى نبي الله تعالى يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وهو في سياقة الموت وسكراته ، يدعو أبناءه إلى الله تعالى ، فقال تعالى عنه ] أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [ وهو في سكرات الموت ، لم ينس هم الدعوة إلى الله تعالى ، ذلك لأن الدعوة لا تعرف زمانا ولا مكانا ، فكل الأوقات تصلح للدعوة إلى الله تعالى وكل الأمكنة تصلح للدعوة إلى الله تعالى ،ولكنها الهمم التي تقوى وتفتر وإلا فالأسباب ميسرة ، والظروف صالحة للدعوة ،إلا أن الهمم والعزائم تنفل بسبب الغفلة وحب العاجلة ، وانظر إلى نبي الله تعالى يوسف عليه السلام ، وهو في السجن ، غريبا مظلوما ، ومع هذه الآلام والتهم الكاذبة التي هي كفيلة بأن تشغل القلب والعقل والروح ، يقوم في السجن داعية إلى الله تعالى ، لأن الدعوة لا تعرف مكانا دون مكان ، فكما أن أرض الحرية خارج السجن أرض صالحة للدعوة ، فكذلك أرض الحبس والقهر أرض صالحة للدعوة ، ولكن أين الهمة التي تفل الحديد كهمة يوسف عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى عنه بعد أن حكى جل وعلا عرض الرؤيا عليه من قبل الشابين السجينين معه ، وقبل تفسيرها لهم قال تعالى ] يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [ فالسجن والحال فيه لا تكاد تخفى على العارف بها ،ولكن الدعوة لا تعرف مكانا دون مكان ، فكل الأمكنة تصلح للدعوة إلى الله تعالى ، ولكن مع الترتيب الجيد والهمة الصادقة والعزيمة التي تقلب العسير يسيرا بفضل الله تعالى ، فكل مكان في الأرض يمكن أن يكون محطة للدعوة إلى الله تعالى ، الولائم والاستراحات ومدرجات الملاعب والحدائق العامة والمنتديات العامة والخاصة ، ومقاهي الانترنت ، والأسواق العامة بل وحتى عند الإشارات المرورية ، وفي السجون ، وفي محل الوظيفة ، وغيرها من الأمكنة ، وكذلك في الأزمنة ، فالداعية داعية في حال الصحة والمرض ، وفي حال الفراغ والشغل ، وفي حال السراء والضراء وفي حال الفرح والحزن ، وفي حال الغنى والفقر ، وحتى لو كبرت سنه وانحنى ظهره فلا يزال داعية إلى الله تعالى ، فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة العمر التي لا بد وأن تكون هاجسا لا ينقطع ، فمن كثر تفكيره في الدعوة وصارت همه وشغله الشاغل فسوف يفتح له من الأبواب فيها ما لا يفتح على غيره وجرب تجد ما قلته لك صحيحا ، والدعوة إلى الله تعالى ليست مرتبطة بالدوام الرسمي ولا بالعمر الوظيفي فمتى ما تقاعد الداعية تخلى عن دعوته أو فترت الهمة فيها وكثر التقصير فيها ، لا ، بل الدعوة هي الوظيفة الحقيقية التي لا نهاية لها إلا الموت ، والدعوة ليست مقصورة على المسجد فقط ، ولا على الجهات الرسمية المعنية بهذا الأمر فقط ، بل الدعوة حق لحق مسلم عالم بما يدعو إليه حتى وإن لم يك موظفا حكوميا ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى في كل مكان ، في المواسم والاجتماعات العامة والخاصة وكان يغشى الكفار في منتدياتهم التي يجتمعون فيها ويخلو بالواحد منهم بل وكان يدعو إلى الله تعالى حتى على ظهر الدابة ، كما ورد بذلك عدة أحاديث ، فليس هناك مكان ولا زمان إلا وهو صالح للدعوة ، ولكن مع الجد والعزم والترتيب الحكيم المقرون بتحقيق المصالح ودفع المفاسد ، وقال وهو في سياقة الموت " ألا وإن من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك "(1) ولما ذكرت له أم سلمة كنيسة رأتها بأرض الحبشة وكان في سياق الموت ويعاني من سكراته رفع رأسه وكشف خرقة كانت على وجهه وقال " أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة "(2) وكان يقول وهو في السكرات أيضا " لا إله إلا الله ألا إن للموت لسكرات الصلاة ، الصلاة ، وما ملكت أيمانكم "(3) ويرددها صلى الله عليه وسلم ، وهو في هذا الوقت الصعب والظروف الرهيبة ،ومع ذلك فلا تزال الدعوة إلى الله تعالى هي الهاجس والشغل والهم الوحيد ، الله أكبر إنها الدعوة التي لا يحدها زمان ولا مكان ، والداعية إلى الله تعالى داعية في بلاده وفي خارج بلاده والمهم أنني أريد أن أبين لك أن الله تعالى قد اختارك أيها الداعية المبارك من بين سائر الناس أن تكون داعية إلى منهجه ، ومرشدا وهاديا إلى سبيله وصراطه المستقيم ، وهذه نعمة كبيرة ، فلا بد وأن تشكر الله تعالى على هذه النعمة ، وأن تقوم بهذه الأمانة الكبيرة خير قيام ، وأن تقدرها قدرها وأن تعرف حق الله تعالى فيها ، وأن لا يشغلك عنها زوجة ولا ولد ولا وظيفة ولا مال ولا تحصيل معاش ولا خوف من أحد ، فكن داعية إلى منهج الله تعالى في كل مكان وفي كل زمان على حسب الطاقة والوسع ، وكما قال المتنبي :-
|
|
والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(1) حديث صحيح , أخرجه مسلم رقم (532) في المساجد ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور .
(2) حديث صحيح , أخرجه البخاري (427) و (3873) ، ومسلم (528) (16) ، والنسائي في "المجتبى" 2/41 , وأحمد (24252)
(3) أخرجه أبو داود رقم (5156) في الأدب , ورواه أيضاً ابن ماجة رقم (2698) ورواه أحمد في " المسند " 6 / 290 , وصححه الحاكم ، ووافقه الذهب.
التعليقات