القاعدة السابعة والثلاثون :- الدعوة الصحيحة تقوم على ركني التصفية والتحلية .
أقول :- إن الله تعالى قد بعث رسله للناس لتحقيق عدة أمور ، وهي التي يسميها أهل العلم رحمهم الله تعالى بوظائف إرسال الرسل وهي كثيرة ويجمعها لنا عدة أمور :- فمن ذلك : البلاغ المبين ، قال تعالى ] فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [ .
ومن ذلك : الدعوة إلى الله تعالى ، قال تعالى ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ .
ومن ذلك : التبشير والإنذار ، قال تعالى ] رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [ وقال تعالى ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [
ومن ذلك : إصلاح النفوس وتزكيتها ، قال تعالى ] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [ وقال تعالى ] اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [ أي بإرسال الرسل وإنزال الكتب .
ومن ذلك : تقويم الأفكار المنحرفة والعقائد الزائغة ، ويدل عليها كل آية فيها الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ومتابعة الآباء على الباطل وتفنيد عبادة الأصنام وهي كثيرة جدًا .
ومن ذلك : إقامة الحجة ، قال تعالى ] لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [
ومن ذلك : سياسة الأمم وفصل الحكومات بين أفرادها بالحق والعدل ، قال تعالى ] يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [ وقال عليه الصلاة والسلام " كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي بعث نبي"(1) وحيث كانت هذه الأمور هي مقاصد بعثة الرسل والوظيفة التي أمر الرسول بها ، فهي بعينها ما يطلب من الداعية إلى الله تعالى ، لأن العلماء هم الدعاة ، وهم ورثة الأنبياء ، فالداعية إلى الله تعالى لا بد وأن يكون على الطريقة التي كانت عليها الرسل ، ومن المعلوم بإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء وآخر الرسل ، فلا نبي بعده ، فأقام الله تعالى أهل العلم من أمته رحم الله تعالى أمواتهم وثبت أحياءهم مقام الأنبياء في الأمم السابقة ، وإذا رأيت المقاصد السابقة رأيتها تدور بين أمرين :- إما فكر أو عقيدة فاسدة تربى ونشأت عليها الأمم فبعث النبي لتقويمها وتصحيحها ، وإما غرز العقيدة الصحيحة والتربية على التعبد الصحيح والعمل المتفق مع ما يريده الله تعالى من العباد ، فالأول هو ما نعنيه بمبدأ التصفية ، والثاني هو ما نعنيه بمبدأ التحلية ، ووظيفة الداعية إلى الله تعالى تقوم على هذين المبدأين ، والأمرين المهمين ، والتي هي خلاصة الدعوة إلى الله تعالى ، فلا بد من إخراج المخالفات من الأفكار والعقائد والأعمال الفاسدة من قلوب المدعوين ، وزرع الأفكار والعقائد والأعمال الصحيحة في القلوب ، والأمر عسير ولكنه يسير مع توفيق الله تعالى وصدق النية والعزيمة والإصرار على التصحيح والمواصلة وعدم الانقطاع ، وعليه :- فلا بد من اقتلاع الشرك من القلوب والأعمال والعقول ، وهو التصفية ، وزرع التوحيد الصافي والعقيدة الصحيحة المتفقة مع الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة ، وهو التحلية ، ولا بد من نسف البدعة من واقع الناس وتكريههم فيها وبيان عظم مضادتها للدين والعقل وبيان العواقب الخطيرة المترتبة عليها ، وهو التصفية ، ومن ثم تقرير السنة في القلوب وتحبيب الناس في السنة والعمل بها ، وتحبيب الناس في علماء أهل السنة وتبغيضهم لدعاة أهل البدع ، وهو التحلية ، ولا بد من تحذير الناس من المعصية وبيان الأدلة في النهي عنها ، والأدلة التي تبين العقوبة على فاعلها وبيان أثرها القبيح السيئ على الفرد والمجتمع والكون ، وفي العاجل والآجل ، وهو التصفية ، ومن ثم دعوة الناس على الطاعة والتعبد الصحيح والتقرب إلى الله تعالى بأنواع القربات ، وهو التحلية ، ولا بد من هدم الأفكار المنحرفة المعوجة التي بنيت على خلاف الحق والتي تدعو أصحابها إلى الأعمال المخالفة للكتاب والسنة ، لا بد من إخراج هذه الأفكار الفاسدة ومحاربة هذه الآراء الشاذة الكاسدة من القلوب والعقول ، وهو التصفية ، ثم بث الأفكار الصحيحة المتفقة مع الكتاب والسنة ، فإن تقويم الأفكار وتصحيح الفهم من أهم الأمور ، لأن كل المخالفات التي ظهرت وتظهر ولا تزال ستظهر في البلاد والعباد إنما سببها الفهم المغلوط والتفكير المنكوس الذي لم يبن على الفهم الصحيح ، فتقويم الفكر وتصحيح الفهم من الأمور الكبيرة الخطيرة التي لا بد وأن تكون من مقدمات اهتمامات الداعية إلى الله تعالى ، فكل الفرق المخالفة لأهل السنة من الخوارج إلى آخر فرقة إنما أتيت من الفهم المنكوس المغلوط الفاسد ، فمبدأ التصفية بإزالة تلك الأفكار ، ومبدأ التحلية بزرع الأفكار الصحيحة من أكبر مهمات الداعية إلى الله تعالى ، ولا بد من نسف الأحاديث الضعيفة والمرويات الواهية والنقولات المكذوبة الموضوعة من بطون الكتب الحديثية والفقهية والسلوكية وغيرها وبيانها للناس ، وبيان أسباب ضعفها وتحذير الناس من العمل بها ، وهذا من أعظم ما يخدم به دين الله تعالى ، ومن أعظم ما ينصر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مبدأ التصفية ، ومن ثم لا بد من بث الأحاديث الصحيحة وتيسير فهمها للناس ، ودعوة الناس إلى الاقتصار في أخذ أمورهم الدينية اعتقادا وعبادة ومعاملة عليها ، وهو مبدأ التحلية ، ولا بد من تحذير الناس من الأخلاق الفاسدة المذمومة ، والعوائد الكاسدة والأعراف والسلوم المخالفة للدين والنقل والفطرة السليمة والعقل الصريح ، لابد من تحذير الناس من سفاسف الأخلاق وترهات التصرفات ، وهو التصفية ، ومن ثم غرز الأخلاق الطيبة والدعوة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة الكريمة النبيلة التي جاء بها الكتاب والسنة ، فالتحذير من سيء الأخلاق هو مبدأ التصفية ، والأمر والدعوة والترغيب في محاسن الأخلاق ومعالي الأمور هو مبدأ التحلية ، ولا بد من بيان الشبه التي يعتمد عليها أهل الباطل ، وهو مبدأ التصفية ، ومن ثم لا بد من كسرها على دليل الكتاب والسنة وإزهاق روحها بسيف الحق ، وهو التحلية ، ولا بد من دعوة الناس إلى اطراح ما اعتادوه من الأمور التي تخالف الكتاب والسنة من القنوات التالفة والمتابعات السخيفة والاهتمامات السامجة ، وهو التصفية, ولا بد مع ذلك من دلالة الناس على البدائل الطيبة النافعة المشروعة ، والتي لا تجني منها الأمة أفرادا وجماعات إلا كل خير ، وهو التحلية ، ولا بد أيضا من تحذير الناس من القدوات السيئة ، وإخراج محبتهم من القلوب ، من الاقتداء بمطرب أو ممثل أو لاعب كرة ، أو غير ذلك ممن يتخذهم كثير من الناس قدوات لهم في أعمالهم وهديهم ، فهذه القدوة التالفة تزرع الأخلاق المذمومة ، وتورث أمورا لا تحمد عقباها على الأمة ، فالاهتمام بإخراج القدوة الطالحة هو مبدأ التصفية ، ومن ثم فلا بد من زرع القدوة الصالحة في القلوب ، ودلالة الناس على القدوة الصالحة الناصحة ، والتي لا تجني الأمة من الاقتداء بهم إلا كل خير ونور وصلاح في العاجل والآجل ، وهم الأنبياء والصحابة الكرام والسلف الصالح والأئمة الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى ، فاقتلاع القدوة الطالحة من القلوب هو مبدأ التصفية ، وزرع القدوة الصالحة وتحبيب الناس فيها هو مبدأ التحلية ، فأنت ترى أيها الداعية المبارك الموفق أن عمل الداعية إلى الله تعالى يدور على مبدأي التصفية والتحلية ، فهو كالطبيب ، فإن عمل الطبيب يدور على إخراج المادة الفاسدة التي أوجبت التلف والألم ، وزرع المادة الطيبة التي تزيل هذا الألم وتذهب أثره ، فكما أن للأبدان طبيبها ، فللقلوب طبيبها ، وكما أن للآلام الحسية علاجها فللأدواء المعنوية شفاؤها ، فالدعاة هم أطباء القلوب ، وطبهم هو أنفع الطب وخير الطب ، لأنه طب يورث جنة عرضها السموات والأرض ، فالأمر كبير ، والنتائج طيبة ، ولكن يحتاج إلى صبر ومصابرة وجهد ومجاهدة وكثرة استعانة بالله تعالى ، ويحتاج إلى عزيمة صادقة وعمل دؤوب وتخطيط حكيم ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
(1) أخرجه البخاري 6 / 360 في الأنبياء ، باب ذكر بني إسرائيل ، ومسلم رقم (1842) في الإمارة ، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول , وأحمد (2/297) .
التعليقات