الإتفاق في الأسماء لا يستلزم الإتفاق في الصفات
هذه القاعدة من أهم القواعد كذلك عند أهل السنة والجماعة ذلك لأنها رد قوي على قاعدةٍ عند علماء أهل الكلام المذموم ، فإن علماء الكلام عندهم قاعدة تقول : إن الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات ، وبنوا على هذه القاعدة مذاهبهم في إبطال الأسماء والصفات ، فقالوا إثبات الصفات لله تعالى يستلزم مماثلة الله تعالى بخلقه وهذا نقص في الخالق ، ذلك لأننا - أي هم يقولون ذلك - لو أثبتنا اليد لله تعالى للزم من ذلك أن تكون مثل يد المخلوق لأن لفظ اليد واحد في كل منهما فاتفقا في الاسم فيلزم الاتفاق في الصفة ، كذا قالـوا ، وكل صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة نفوها لهذا الأصل الفاسد ، ولذلك لا بد من الرد عليهم وإبطال هذه القاعدة الفاسدة ، إذا علمت هذا فاعلم أن هذه القاعدة باطلة بالنقل والعقل والحس ، كما أن قاعدتنا التي نشرحها الآن هي الصواب بالنقل والعقل والحس ، ذلك أن كل دليلٍ نقلي أو عقلي أو حسي يبطل قاعدتهم فهو يصحح قاعدتنا فسواءً عبرنا بهذا أو بهذا فالكل واحد فتنبه .
والدليل على صحة قاعدتنا من النقل أننا نجد الله تعالى في كتابه الكريم يسمي نفسه بأسماء ويسمي عباده بتلك الأسماء وليس المسمى كالمسمى ، من ذلك قول الله تعالى : } إن الله كان سميعًا بصيرًا { . وقال عن عباده : } إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا { وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير ، ومن ذلك قوله تعالى عن نفسه : } وكان بالمؤمنين رحيمًا { . وقال عن النبي - e - : } بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم { وليس الرحيم كالرحيم ولا الرؤوف كالرؤوف ، والآيات كثيرة ، وكذلك في الصفات نجد الله تعالى يصف نفسه بصفات يصف بها عباده مع الفارق بين الصفتين والموصوفين ، فوصف الله تعالى نفسه بالرحمة قال : } وربك الغفور ذو الرحمة { . وقال النبي - e - : (( الراحمون يرحمهم الرحمن )) وليست الرحمة المضافة إلى الله تعالى كالرحمة المضافـة إلى المخلوقين ، بـل لكـلٍ رحمته التي تليق به ، وليس مجرد الاتفاق في اسم الرحمة دليل على أن الرحمة كالرحمة . وأما الدليل العقلي على صحة قاعدتنا وبطلان قاعدتهم هو أن يقال : إن من المعلوم أن المعاني والأوصاف تتميز عن بعضها ، بحسب ما تضاف إليه فصفة كل موصوفٍ تناسبه وتليق به ، فكما أن الذوات تختلف بحسب ما تضاف إليه فكذلك الصفات تختلف بحسب ما تضاف إليه ، فلو وصفنا الحديد بأنه لين ، ووصفنا الإنسان بأنه لين ، فقد اتفق الحديد والإنسان في الوصف باللين لكن نعلم عقلاً وحسًا أن اللين المضاف إلى الحديد ليس كاللين المضاف إلى الإنسان ، بل لين الإنسان يخصه ولين الحديد يخصه . والدليل من الحس على بطلان قاعدتهم وصحة قاعدتنا ، هو أننا نرى في الشاهد أشياء اتفقت في أسمائها واختلفت في صفاتها ، فمن ذلك أننا نرى أن للفيل جسًا وللبعوض جسمًا فاتفق الفيل والبعوض أن كلاً منهما يوصف بالجسمية ، لكن لا أحد يقول إن جسم البعوض كجسم الفيل ومن قال ذلك فهو من أعظم الناس سفسطة ، وكذلك نرى أن المصباح يوصف بالإضاءة ، والشمس توصف بالإضاءة وليست الإضاءة كالإضاءة ومن قال ذلك فلا أظن أحدًا يتوقف عن اتهام عقله بآفة . وكذلك جاء الدليل بأن العرش موجود ونرى نحن أن البعوض موجود ، فاتفق العرش والبعوض بأن كل واحدٍ منهما موجود ، لكن ليس وجود العرش كوجود البعوض ومن قال ذلك ، فقد جعل وجود أكبر المخلوقات كوجود أصغر المخلوقات ، وعلى هذا فقس . وإن أردنا أن نمثل على ذلك أيضًا فما أحسن ما مثل به الشيخ : تقي الدين في التدمرية فقد أورد مثالين ، فقد ذكر أن الله تعالى قد أخبرنا في القرآن أن في الجنة ماءً وخمرًا وعسلاً ونساءً وخدّامًا وبيوتًا وخيامًا وغير ذلك من النعيم المقيم الذي أعده الله تعالى لعباده الصالحين ، بينما نجد أن الله تعالى قد سمى هذا النعيم الذي ذكرت بأسماء توافق الأسماء التي عندنا هنا في الدنيا ، فنحن عندنا الماء والخمر والعسل والنساء والبيوت ، فقد اتفقت الأسماء فهل يلزم على ذلك أن يكون ما في الجنة هو نفس ما عندنا ، في الصفة والكيفية ، بالطبع لا ، فإن الله تعالى أخبر أنه لا تعلم نفس ما أعده الله لها من النعيم فقال : } فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون { . وقال النبي - e:- (( قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) مما يدل على أنه ليس نعيم الدنيا مماثلاً لنعيم الجنة أبدًا . ولذلك قال ابن عباس : ( ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ) . وبعد ذلك علمنا يقينًا أن الصواب هو ما قاله أهل السنة والجماعة من أن التوافق في الأسماء لا يستلزم التوافق في الكيفيات . وأما المثال الثاني الذي أورده الشيخ : تقي الدين في التدمرية هو الروح فمن المعلوم أن هذه الروح قد وصفت بصفاتٍ في الكتاب والسنة أنها تصعد وتهبط وتطرح وتكفن وتذهب ويتبعها البصر إلى غير ذلك من الصفات ومن المعلوم أيضًا أن هذه الصفات التي قد وصفت بها الروح نعرفها نحن لأننا نجدها عندنا في الشاهد ومع هذا الاتفاق في الاسم والصفة بين صفاتنا وصفاتها إلا أنه لم يقل أحدٌ فيما أعلم أن الصفات التي قد وصفت بها الروح هي بعينها كصفاتنا فإذا لم يلزم التماثل في ذلك بين المخلوقات مع بعضها البعض فمن باب أولى أن لا يلزم ذلك بين الخالق والمخلوق ، بل وقد ذكرنا زيادة على ذلك في شرحنا للتدمرية فراجعه إن شئت ، والله تعالى أعلى وأعلم .
التعليقات