طلب العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، أما بعد :
فإن هناك آفات كثيرة تعترض طالب العلم في طريق طلبه للعلم ، ولا سيما بعد تحصيل قدر طيب منه ، وهذه الآفات لا بد من النظر لها بعين الاعتبار ، وهي آفات كثيرة ، ولكن نذكر لك أخطرها وأهمها :
فمنها : أنه لا يطلبه إلا لغرض دنيوي بحت ، من تحصيل مال أو سمعة أو تفاخر أو منصب ، وهذا من أعظم الآفات التي تواجه الطالب للعلم ، ومن سلم منها فإن ما بعدها أيسر منها ، ولكن أنى له أن يسلم منها وقد اجتمع عليه الشيطان والدنيا والهوى والنفس ؟ إلا إن وفق العبد للاستعانة بالله تعالى ، فإنه سينجو من هذه المهلكة الكبيرة والآفة الخطيرة ، وهي فساد النية في طلب العلم ، وقد تملكنا عن هذه الآفة في مسألة خاصة وذكرنا الأدلة الدالة على وجوب إخلاص النية في العلم
ومنها : أن يفسده بالدخول على الملوك ، فإن العالم إن دخل أبواب السلطان فلا بد وأن يفتن ، فالحذر الحذر أيها العلماء من الولوج على السلاطين ، قال عليه الصلاة والسلام " من تتبع الصيد غفل ، ومن وقف عند أبواب السلطان افتتن " فإن العالم لا يزال في خير ومنعة ما لم يدخل على الحاكم ، فإن دخل عليه فناهيك عن الفساد الذي سيدخل عليه ، فالأصل المتقرر عند سلف الأمة التحذير من الدخول على الحكام ، إلا إن دعت الحاجة أو الضرورة الملحة إلى الدخول عليه ، واعلم رحمك الله تعالى أن المراد بالدخول المذموم أي الدخول الذي يراد به إرضاء الحاكم في معصية الله تعالى أو الرضا بما هو عليه من الفجور والمعصية ، أو السكوت عن المنكرات التي يراها مجاملة ومداهنة للحاكم ، أو إبطال الحق أو إحقاق الباطل من أجل هوى الحاكم ، أو كان متلصصا على دنياه أو طامعا في المناصب التي تحت يده أن ينصبه على شيء منها ، أو كان يريد أن يبسط له المخالفة ، ونحو ذلك من المقاصد السيئة ، فإن الدخول على الحاكم من الوسائل التي يختلف حكمها باختلاف القصد ، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم " وإنما لكل امرئ ما نوى " والله تعالى هو الذي يعلم السر وأخفى ، والله المستعان .
ومنها : التعالم قبل التمكن ، وهذا خطير جدا ، بل هو طريق الهلاك ، فتجد الطالب لا يزال صغيرا في العلم ، وفي بدايات الطلب ، ويتكلم في المسائل الكبار ، التي يتحاشى عن الكلام فيها كبار العلماء ، وهذه الجرأة على الكلام في مثل هذه المسائل ليس من باب قوة التحصيل ووفور الدراسة ، بل من باب قلة الأدب وذهاب الحياء ونفخ البطن بالهواء ، وفي الغالب أن هذا الصنف تحصل فتنته على العلماء أنفسهم ، لأنهم يريدون أن يصفوا مصافهم ، ولا يستطيعون ذلك إلا بالخوض فيهم وفي أعراضهم والكلام في فتاواهم والتعليق على كلامهم ، فيتزببون قبل أن يتحصرموا ، وفيهم ألف الشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله تعالى كتابه الطيب القيم ( التعالم ) فلو رجعتم إليه لكان حسنا ، لا سيما في هذا الزمان الذي كثر الغثاء فيه ، والله المستعان .
ومنها : القول على الله تعالى بلا علم ولا برهان حفاظا على ماء الوجه ، وتخلصا من الموقف والحرج وهذا يكون في بعض الطلاب ، لأنهم غلبوا المحافظة على مكانتهم العلمية بين الناس على قول : لا أدري ، ونسوا الأدلة التي تحذر وتنهى عن القول على الله تعالى بلا علم ، كقوله تعالى في سياق المحرمات على حسب الأعظمية " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " وقوله تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " وقوله تعالى " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب " واتفق أهل العلم رحمهم الله تعالى على حرمة القول على الله تعالى بلا علم ، وفي الغالب أن هذه الآفة يقع فيها صغار الطلاب ، لأنهم يحاولون فتل عضلاتهم في العلم أما الناس ، ولكن سرعان ما تتغير الحال ويأتي الورع مع الاستمرار في الطلب والتأدب بأدب العلم ، فأنا أوصيك أيها الطالب أن لا تخطئ : لا أدري ، ولا أعلم ، فيما لا تعلمه ، وأن لا تتكلم في شيء من العلم إلا وأنت تعلمه علما صحيحا على وجه اليقين أو غلبة الظن ، وأما التخرص والهوى والكلام الذي لم يبن على العلم والهدى فاحذر منه كل الحذر ، فإنه مزلق خطير لا يكاد يسلم منه إلا من وفقه الله تعالى ، أعاننا الله وإياك على قتل حظوظ النفوس ، والله المستعان .
ومنها : الانقطاع عن الطلب والاشتغال عن العلم بغيره من أمور الدنيا ، وكم رأينا من الطلاب الذين لهم نصيب وافر في الطلب والتحصيل قد تخطفتهم يد الأشغال ، وأبعدتهم الحظوظ الدنيوية عن طريق الطلب ، فطريق التحصيل لا بد فيه من الدوام والاستمرار ، وأما الانقطاع عن الحفظ والقراءة وحضور مجالس أهل العلم ومراجعة العلم فإنه آفة تنخر في جسد التحصيل ،وآكلة سوء تهضم ما تعب العبد على جمعه وضبطه ، فلا بد من المواصلة وتشمير اليد عن ساعد الجد في الاستمرار والمثابرة في التحصيل ، ويستطيع الطالب أن يوفق بين أموره الخاصة وطلبه للعلم بتنظيم وقته ، وعدم إهدار شيء منه ، فالعلم حمالة ثقيلة ، وأمانة كبيرة ، لا بد من مراعاتها والمحافظة عليها ، والعض عليها بالنواجذ ، فالله الله يا طلبة العلم في المواصلة في الطلب ، وأن لا يشغلنكم عن العلم أمر من الأمور التافهة ، فإن العلم والتحصيل هو الخير ، وما دونه من الأمور فهو تافه دون ، فلا تكونوا من الذين اشتروا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، والله المستعان .
ومنها : كتمه وعدم تبليغه ، وهي آفة موجبة لغضب الله تعالى وسخطه وأليم عقابه ، فإبلاغ العلم من المواثيق التي أخذها الله تعالى على أهل العلم ، قال تعالى " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون " وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم من كتم العلم بالعقوبة البليغة التي تقشعر منها القلوب وتخاف منها النفوس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار " فيجب على الطالب أن يجتهد في التبليغ ، وأن يقتنص الفرصة المواتية للبلاغ ، وأن لا يهملها ، وأن لا يستصغر شيئا قاله من العلم لله تعالى ، فلرب كلمة صغيرة يجعل الله تعالى عليها من الفتوح ما لم يكن في الحسبان ولا في الخيال ، فالبركة من الله تعالى ، وإنما عليك هداية الدلالة والإرشاد ، وأما هداية التوفيق والإلهام فإنها من الله تعالى ، وعلى الطالب في التبليغ أن يكون ذا أسلوب حسن يأخذ بالقلوب ، ويكون ذا فهم لكيفية الدخول في الحديث ، فإن المقدمات الناجحة عنوان على نجاح المقاصد إن شاء الله تعالى .
ومنها : تتبع الغرائب وفتح القلب لاستماع الشبه قبل التضلع من علوم السلف ، فإن من الناس من لا يروي ظمأ قلبه مجرد العلوم التي يشترك الطلاب في فهمهما ومعرفتها ، حتى يفتح على نفسه باب الغرائب ، ليجذب الناس لسماعه والحضور عنده ، وانفتاح باب تتبع الغريب من العلم سبب للهلاك في الغالب ، لأن هذه الغرائب تكون في الغالب من الأمور المبنية على غير هدى ، ولا على برهان صحيح ، أو تكون من الأقوال الشاذة التي لا يعول عليها أهل العلم ، أو تكون من المبالغات التي لا تستند إلى أصل صحيح ، أو تكون من الحكايات التي لا خطام لها ولا زمام ، وهذا كله لا ينفع بل يضر ، بل على الطالب أن يبني قاعدة علمه على الأدلة الصحيحة وأن يترقى في مدارج التحصيل على الأصول الثابتة التي يعتمدها أهل العلم ، وأن يسلك في التحصيل طريقة الراسخين في العلم من أهل السنة والجماعة ، وهذا لا يكون إلا بالالتزام بالطلب عند أهل العلم العارفين به ، وأما التحصيل الذاتي فإنه قد لا يفيد كثيرا ، فانتبه لهذا .والآفات كثيرة ، ولكن هذه من أهمها ، والله ربنا أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ......
التعليقات