العلم ومكانة العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحب أجمعين ، وبعد : فهذه تنف من فضل العلم وفضل العلماء ، لعلنا تثور عزائمنا لتحصيله والحث عليه ، وهي فضائل كثيرة ، ولكن نقتصر على أهمها وأبرزها ، فأقول وبالله تعالى التوفيق ، ومنه أستمد العون والفضل وحسن التحقيق :
اعلم رحمك الله تعالى هذا الكلام من فرائد الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ، فأقول وبالله تعالى التوفيق :
فمن ذلك : أن الله تعالى اختصهم بالشهادة على أعظم مشهود به مقرونة شهادتهم بشهادته جل وعلا ، وشهادة ملائكته الكرام ، فقال تعالى " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " و هذا تعديل وتزكية من الله تعالى لأهل العلم ، لأن الله تعالى لا يقبل إلا شهادة العدول ، ومن الفضل أيضا : أنه جل وعلا وصف أهل العلم بالإبصار ووصف أهل الجهل بالعمى ، فقال تعالى " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى " فالجاهل بالحق أعمى والعالم به مبصر ، وناهيك عن التفريق بينهما بالعمى والإبصار .
ومن الفضل أيضا : التصريح بأن الله تعالى يرفع أهل العلم درجات ، فهم مرفوعون لأنهم من جملة المؤمنين ، ولكن يرفع أهل العلم رفعا زائدا لما يحملونه في قلوبهم من العلم ، فقال تعالى " يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات "
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى حصر الخشية في أهل العلم فقال " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فالناس وإن شاركوا أهل العلم في أصل الخشية ، إلا أن كمالها خص بها أهل العلم ، وهذا لكمال معرفتهم بالله تعالى .
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى أمر الأمة بالرجوع إليهم ، واستفتائهم فيما لا يعلم من الأمور ، فهم مرجع الأمة في نوازلها ، وما يشكل عليها ، فقال تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وأهل الذكر هم أهل العلم بما انزل على الأنبياء ، ومن الفضل أيضا : أنه سبحانه مدح أهل العلم وأثنى عليهم وشرفهم بان جعل كتابه آيات بينات في صدورهم وهذه خاصة ومنقبة لهم دون غيرهم فقال تعالى " وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون * وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " وسواء كان المعنى أن القرآن مستقر في صدور الذين أوتوا العلم ثابت فيها محفوظ وهو في نفسه آيات بينات فيكون أخبر عنه بخبرين ، أحدهما: أنه آيات بينات ، الثاني: أنه محفوظ مستقر ثابت في صدور الذين أوتوا العلم ، أو كان المعنى أنه آيات بينات في صدورهم أي كونه آيات بينات معلوم لهم ثابت في صدورهم والقولان متلازمان ليسا بمختلفين وعلى التقديرين فهو مدح لهم وثناء عليهم
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى لم يأمر نبيه في كتابه من دعاء الازدياد من شيء إلا من العلم ، فقال تعالى " وقل رب زدني علما " وكفى بهذا شرفا للعلم .
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن لا ينفروا كافة ، وأن لا تنفر إلا طائفة ، وطائفة تقعد عند النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه ما ينزل من الشرائع والسنن ، ويتفقهوا في الدين ، حتى إذا جاءت الطائفة النافرة ، يتعلمون من إخوانهم ، فهما جهادان : جهاد التعلم ، وجهاد العدو ، والله تعالى أمر بهما ، مما يفيد أن العلم تعلما وتعليما من الجهاد في سبيل الله تعالى ، قال تعالى " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " فلما أمر الله طائفة بالبقاء للتعلم وطائفة بالنفر للجهاد علمنا أن العلم جهاد ، لأن الجهاد إما أن يكون بالسيف والسنان وإما أن يكون بالحجة والبيان ، وأعلاهما شرفا جهاد الحجة ، والله أعلم .
ومن الفضل أيضا : أن أهل العلم كما أنهم الشهود في الدنيا فكذلك هم الشهود في الآخرة ، كما قال تعالى " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ... الآية "
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى بين في كتابه الكريم أنه يضرب الأمثال للناس ، ولكن لا ينتفع بها على وجه الكمال والحقيقة إلا أهل العلم به ،فقال تعالى " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " وهذا تزكية لهم في الفهم والعلم والعقل ، وفي القرآن بضعة وأربعون مثلا وكان بعض السلف إذا مر بمثل لا يفهمه يبكي ويقول لست من العالمين .
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى وصف من آتاه العلم بأنه قد آتاه خيرا كثيرا ، فقال تعالى " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " والحكمة ثمرة من ثمرات العلم كما هو معلوم ، فإذا كانت الحكمة وهي ثمرة من ثمراته قد وصففت بهذا الوصف الطيب ، فكيف بالعلم أصلا ؟ لا جرم أنه الخير كل الخير .
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى افتتح كتابه بآلة العلم وهي القراءة فقال تعالى " اقرأ باسم ربك الذي خلق " وهذا أمر بالقراءة التي يكون بها العلم ، فهو أمر بالتعلم ، وهذه أول آية نزلت من كتاب الله تعالى ، ففي هذا دليل على أن العلم له المنزلة الكبرى بين تعبدات الشرع لأنه أول مأمور به .
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى أخبر عن نبيه موسى عليه السلام أنه استعاذ به أن يكون من الجاهلين ، فقال عنه في قصة البقرة " أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " وكفى الجهل ذما أن يستعاذ بالله تعالى منه ، والاستعاذة من الجهل إنما يراد بها طلب ضده وهو العلم ، ومثل ذلك أن الله وعظ نبيه نوح أن يكون من الجاهلين ، فقال تعالى " فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين "
ومن الفضل أيضا : أن الله سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرم أكلها وأباح صيد الكلب المعلم وهذا ايضا من شرف العلم انه لا يباح إلا صيد الكلب العالم وأما الكلب الجاهل فلا يحل أكل صيده فدل على شرف العلم وفضله قال الله تعالى " يسألونك ماذا أحل لهم قل احل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما امسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب " ولولا مزية العلم والتعليم وشرفهما كان صيد الكلب المعلم والجاهل سواء .
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى ذكر كلب أصحاب الكهف وصفة نومه بالوصيد ، وما ذلك إلا لأنه صحب أهل العلم وحفظهم ، فإذا كانت صحبة أهل العلم توجب هذا الشرف الكبير ، فكيف بأهل العلم أنفسهم ، فإن كان من يصحبهم له هذا الشرف والعلو ، فكيف بهم ؟.
ومن الفضل أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد أن خيرنا من تعلم القرآن وعلمه " فصارت الخيرية مرتبطة بالعلم والتعليم ، وما ذلك إلا لعلو مرتبة العلم وكبير شرفه .
ومن الفضل : أن الله سبحانه اخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوراة بيده وكلمه منه إليه انه رحل إلى رجل عالم يتعلم منه ويزداد علما إلى علمه فقال " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى ابلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا" حرصا منه على لقاء هذا العالم وعلى التعلم منه فلما لقيه سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه وقال له "هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا" فبدأه بعد السلام بالاستئذان على متابعته وانه لا يتبعه إلا بإذنه وقال " على أن تعلمن مما علمت رشدا" فلم يجيء ممتحنا ولا متعلما وإنما جاء متعلما مستزيدا علما إلى علمه وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم فإن نبي الله وكليمه سافر ورحل حتى لقي النصب من سفره في تعلم ثلاث مسائل من رجل عالم ولما سمع به لم يقر له قرار حتى لقيه وطلب منه متابعته وتعليمه .
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى قد امتن على نبيه بالتعليم ما لم يكن يعلم ، فقال " وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " .
ومن الفضل أيضا : أن العلم حياة ونور والجهل موت وظلمة والشر كله سببه عدم الحياة والنور والخير كله سببه النور والحياة فإن النور يكشف عن حقائق الأشياء ويبين مراتبها والحياة هي المصححة لصفات الكمال الموجبة لتسديد الأقوال والأعمال فكلما تصرف من الحياة فهو خير كله كالحياء الذي سببه كمال حياة القلب وتصوره حقيقة القبح ونفرته منه وضده الوقاحة والفحش وسببه موت القلب وعدم نفرته من القبيح وكالحياء الذي هو المطر الذي به حياة كل شيء قال تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " كان ميتا بالجهل قلبه فأحياه بالعلم وجعل له من الإيمان نورا يمشى به في الناس وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله وان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " وقال تعالى " والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وقال تعالى " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي إلى صراط مستقيم " فأخبر انه روح تحصل به الحياة ونور يحصل به الإضاءة والإشراق ، فجمع بين الأصلين الحياة والنور وقال تعالى " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " وقال تعالى " فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعمل ون خبير " وقال تعالى " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا" وقال تعالى " قد انزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور" وقال تعالى " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم " ضرب سبحانه مثلا لنوره الذي قذفه في قلب المؤمن كما قال أبي بن كعب رضي الله عنه مثل نوره في قلب عبده المؤمن وهو نور القرآن والإيمان الذي أعطاه إياه كما قال في آخر الآية " نور على نور" يعنى نور الإيمان على نور القرآن كما قال بعض السلف يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وان لم يسمع فيها بالأثر فإذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور ، فالعلم نور القلوب ، وحياة الأرواح ، وأنيس النفوس ، ولذة الحياة ، وراحة العقول ، هو الكنز الذي لا يفنى ، والنبع الذي لا ينضب ، والمال الذي لا ينقص ، والتجارة التي لن تبور ، هو بستان الأخيار ، ورياض الصالحين ، وسلوة الفضلاء ، وجليس النبلاء ، هو زينة الوقار ، وتاج الهيبة ، ومفتاح السمعة الطيبة ، هو العدة في الرخاء، والذخيرة في الشيخوخة ، وبالجملة فهو النور والروح والحياة الراحة .
ومن فضائله أيضا : أن النبي _ صلى الله عليه وسلم جعل علامة على إرادة الله تعالى التوفيق لعبده ، وهي التفقيه في الدين ، فقال صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " متفق عليه ، ومفهوم هذا الحديث أن من لم يرد الله تعالى به خيرا فإنه يحرمه من التفقه في الدين .
ومن الفضل أيضا : أن العلم للأرواح كالماء للأرض الميتة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت العشب والكلأ الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى وإنما هي قيعان ، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه ما نفعني الله به من العلم فعمل وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " متفق عليه .
ومن الفضل أيضا : ما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعلي رضي الله عنه "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله بحيث إذا اهتدى رجل واحد بالعالم كان ذلك خيرا له من حمر النعم وهي خيارها وأشرفها عند أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس .
ومن الفضل أيضا : ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " أخبر صلى الله عليه و سلم أن المتسبب إلى الهدى بدعوته له مثل اجر من اهتدى به والمتسبب إلى الضلالة بدعوته عليه مثل إثم من ضل به لان هذا بذل قدرته في هداية الناس وهذا بذل قدرته في ضلالتهم فنزل كل واحد منهما بمنزلة الفاعل التام وهذه قاعدة الشريعة كما هو مذكور في غير هذا الموضع قال تعالى " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم إلا ساء ما يزرون " وقال تعالى "وليحملن أثقالهم وإثقالا مع أثقالهم " وهذا يدل على أن من دعا الأمة إلى غير سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو عدوه حقا لأنه قطع وصول اجر من اهتدى بسنته إليه وهذا من أعظم معاداته نعوذ بالله من الخذلان .
ومن الفضل أيضا : ما خرجا في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها" فاخبر صلى الله عليه و سلم انه لا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا يعني حسد غبطة ويتمنى مثل حاله من غير أن يتمنى زوال نعمة الله عنه إلا في واحدة من هاتين الخصلتين وهي الإحسان إلى الناس بعلمه أو بماله وما عدا هذين فلا ينبغي غبطته ولا تمنى مثل حاله لقلة منفعة الناس به .
ومن الفضل أيضا : حديث أبي أمامة الباهلي قال ذكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم رجلان احدهما عالم والآخر عابد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير " قال الترمذي هذا حديث حسن غريب ، سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث الخزاعي قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : عالم عامل معلم يدعى كبيرا في ملكوت السموات وهذا مروى عن الصحابة قال ابن عباس علماء هذه الأمة رجلان فرجل أعطاه الله علما فبذله للناس ولم يأخذ عليه صفدا ولم يشتر به ثمنا أولئك يصلى عليهم طير السماء وحيتان البحر ودواب الأرض والكرام الكاتبون ورجل آتاه الله علما فضن به عن عباده واخذ به صفدا واشترى به ثمنا فذلك يأتي يوم القيامة يلجم بلجام من نار ذكره ابن عبد البر مرفوعا وفي رفعه نظر وقوله " إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض يصلون على معلم الناس الخير" لما كان تعليمه للناس الخير سببا لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم جازاه الله من جنس عمله بأن جعل عليه من صلاته وصلاة ملائكته وأهل الأرض ما يكون سببا لنجاته وسعادته وفلاحه وأيضا فإن معلم الناس الخير لما كان مظهرا لدين الرب وأحكامه ومعرفا لهم بأسمائه وصفاته جعل الله من صلاته وصلاة أهل سمواته وأرضه عليه ما يكون تنويها به وتشريفا له وإظهارا للثناء عليه بين أهل السماء والأرض .
ومن الفضل أيضا : ما رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم " يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب أن العلماء ورثة الأنبياء أن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه اخذ بحظ وافر ، ويكفي بذلك شرفا وعلوا ورفعة .
ومن الفضل أيضا : أن العلم هو الميراث الحقيقي الذي هو ميراث الأنبياء ، وعلى ذلك قوله تعالى " وورث سليمان داود " وقوله تعالى " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا .. الآية " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " ويذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه انه مر بالسوق فوجدهم في تجاراتهم وبيوعاتهم فقال انتم ههنا فيما انتم فيه وميراث رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم في مسجده فقاموا سراعا إلى المسجد فلم يجدوا فيه إلا القرآن والذكر ومجالس العلم فقالوا أين ما قلت يا أبا هريرة فقال هذا ميراث محمد صلى الله عليه و سلم يقسم بين ورثته وليس بمواريثكم ودنياكم أو كما قال رضي الله عنه .
ومن الفضل أيضا : حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة " وما ذلك إلا لأن العلم نور يهدي صاحبه لطريق التعبد الصحيح ، وطريق التعبد الصحيح هو الطريق إلى الجنة .
ومن الفضل أيضا : أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه وبلغه بالنضرة وهي البهجة ونضارة الوجه وتحسينه ففي الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال " نضر الله أمرا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو افقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة أئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " .
ومن الفضل أيضا : أن الله تعالى وكل بحلق الذكر ملائكة سيارة ، لا شأن لهم إلا البحث عن حلق الذكر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ فَيَقُولُونَ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ قَالَ وَمَاذَا يَسْأَلُونِي قَالُوا يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ قَالَ وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي قَالُوا لَا أَيْ رَبِّ قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي قَالُوا وَيَسْتَجِيرُونَكَ قَالَ وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي قَالُوا مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ قَالَ وَهَلْ رَأَوْا نَارِي قَالُوا لَا قَالَ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي قَالُوا وَيَسْتَغْفِرُونَكَ قَالَ فَيَقُولُ قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا قَالَ فَيَقُولُونَ رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَالَ فَيَقُولُ وَلَهُ غَفَرْتُ هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ " ويزاد على ذلك أنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، فإذا كان جليسهم منفي عنهم الشقاء ، فكيف بهم في ذواتهم ، لا جرم أن الأمر أعظم وأكبر وأفخم ، فهنيئا لأهل العلم العاملين به والداعين إليه ، ومن الفضل أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لرياض الذكر وحلق العلم بأنها من رياض الجنة ، فقال عليه الصلاة والسلام " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا " قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال " حلق الذكر " .
ومن الفضل أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الملائكة لها دورها الكبير في إعلاء شأن حلق الذكر ، فقال عليه الصلاة والسلام " وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ " وناهيك بهذا الفضل فضلا .
ومن الفضل أيضا : أن العلم إمام العمل وقائد له والعمل تابع له ومؤتم به فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه كما قال بعض السلف من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له فالعمل الموافق للعلم هو المقبول والمخالف له هو المردود فالعلم هو الميزان وهو المحك قال تعالى " هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور " قال الفضيل بن عياض :ــ هو أخلص العمل وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا فالخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ... ولا يكون العبد مهديا للصراط المستقيم إلا بالجمع بين العلم والعمل ، فإن من عمل بلا علم ففيه شبه من النصارى ، ومن عمل ولم يعمل ، ففيه شبه اليهود ، ومن عبد الله تعالى بالعلم والعمل فهو الموفق والمهدي إلى سواء الصراط ، وقد عقد بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى مقارنة بين العلم والمال ، فقال :- العلم خير من المال ، وأنا أبين لك ذلك في أمور :-
ومنها : أن العلم من عطاء الألوهية ، وأما المال فهو من عطاء الربوبية .
ومنها : أن العلم مما يخص الله تعالى به من أراد به الخير ، وأما المال فهو لهم ولغيرهم .
ومنها : أن العلم لا يزداد بكثرة النفقة فيه إلا بركة وزيادة ،وأما المال فإنه ينقص ، قال الشاعر في شأن العلم :
يزيد بكثرة الإنفاق فيه وينقص إن به كفا شددتا
ومنها : أن العلم لا يخاف عليه من السراق ، فلا يكون سببا لاهتمام صاحبه به ، وأما المال فإنه يخاف عليه من السراق ، فاهتمام صاحبه به مما يوجب له الغم والأمراض .
ومنها : أن المال إنما يمتع به البدن ، وأما العلم فإنه متعة الروح والقلب والعقل .
ومنها : أن المال مقود لا قائد ، ومتصرف فيه لا متصرف ، وأما العلم فهو قائد لا مقود ومتصرف لا متصرف فيه .
ومنها : أن العلم حاكم على المال ، وأما المال فليس بحاكم على العلم ، بل العلم هو الحاكم في المال وغير المال .
ومنها : أن العلم شرف لصاحبه في الحياة وبعد الممات ، وأما المال فهو شرف لصاحبه في الحياة فقط.
ومنها : أن العلم ميراث الأنبياء وأما المال فهو ميراث الملوك وأهل الغنى من أهل الدنيا .
ومنها : أن المال إن مات صاحبه فارقه ماله ، وأما العلم فلا يفارقه ، بل هو معه في قبره ومعه في يوم حشره ونشره .
ومنها : أن العالم يحتاج إليه الملوك والأغنياء وأهل المال ، وغيرهم من أصناف الناس ، وأما أهل المال فلا يحتاج إليهم إلا الفقراء والمعوزين .
ومنها : أن تحصيل المال في الغالب مما يدعو إلى الاتصاف بصفات الملوك وعلية الناس في المناصب الدنيوية ، وأما العلم فإنه في الغالب مما يدعو إلى الزهد والتقلل من هذه الحياة ، والتواضع وخفض الجناح للناس ، فهو يجعل صاحبه يعيش حياة العبودية الحقة لله تعالى .
ومنها : أن النفس تشرف وتزكو بجمع العلم وتحصيله وذلك من كمالها وشرفها والمال يزكيها ولا يكمله ولا يزيدها صفة كمال بل النفس تنقص وتشح وتبخل بجمعه والحرص عليه فحرصها على العلم عين كمالها وحرصها على المال عين نقصها.
ومنها : أن العلم مأمون الغائلة من فجيعة الفقد وألم الخسارة ، وأما المال فما أكثر ما افتجع به أصحابه وتألموا على فقده ن فالغنى الحقيقي إنما هو غنى العلم لا غنى المال .
ومنها : أن المال يستعبد محبه وصاحبه فيجعله عبدا له كما قال النبي صلى الله عليه و سلم " تعس عبد الدينار والدرهم ...الحديث " والعلم يستعبده لربه وخالقه فهو لا يدعوه إلا إلى عبودية الله وحده .
ومنها : أن حب العلم وطلبه أصل كل طاعة وحب الدنيا والمال وطلبه أصل كل سيئة .
ومنها : أن قيمة الغني ماله وقيمة العالم علمه فهذا متقوم بماله فإذا عدم ماله عدمت قيمته وبقي بلا قيمة والعالم لا تزول قيمته بل هي في تضاعف وزيادة دائما .
ومنها : أن محبة الناس للعالم في الغالب ما تكون محبة صادقة ، وأما محبة الناس لصاحب المال ففي الغالب ما تكون مدخولة بشيء من الهوى ، فلا يحب صاحب المال والملك في الغالب إلا طمعا في تحصيلها منه .
ومنها : أن تحسر الناس وألمهم عند فقد العالم لا يقارن البتة بفقدهم لأهل المال ، بل أهل المال ربما فقدوا وما يدري عنهم أحد ، وأما العلماء فإن فقدهم ثلمة كبيرة ، وفاجعة عامة لأهل الإسلام كلهم.
ومنها : أن العلم هو السلطان الحقيقي ، لأنه سلطان الأرواح ، فتجد الناس عند العالم أعظم ما يكونون عند الملوك والأمراء ، لأنه سلطان الصدق والإخلاص ، وأما سلطان الملك والمال فإنه سلطان الظاهر فقط ، وما يوجد عند الملوك ففي الغالب ما يدخله كثير من النفاق والمبالغة التي يراد من ورائها حظ من حظوظ الدنيا .
ومنها : أن العالم يدعو الناس إلى الله بعلمه وحاله وجامع المال يدعوهم إلى الدنيا بحاله ، وشتان بين الداعيين والدعوتين .
ومنها : أن عقلاء الأمم مطبقون على ذم الشره في جمع المال الحريص عليه وتنقصه والإزراء به ومطبقون على تعظيم الشره في جمع العلم وتحصيله ومدحه ومحبته ورؤيته بعين الكمال .
ومنها : أن العقلاء مطبقون على مدح الزاهد في المال والمتقلل منه ، والذي لا يتبعه همته ، ومطبقون على ذم الزاهد في العلم .
ومنها : أن الله تعالى إنما أمر بالدعاء من الازدياد من العلم لا من المال .
ومنها : أن العلم نفعه لصاحبه لا يفتقر إلى المال ، فالعلم نافع بالذات ، وأما المال فإنه لا يكمل انتفاع صاحبه به ولا يكون مالا طيبا إلا بالعلم ، فمن أوتي مالا ولم يؤت علما ولا دينا ولا صلاحا فإن فساده في الأرض لا يخفى ، وفي الحديث عن أبي كبشة الأنماري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " مثل هذه الأمة ، مثل أربعة نفر : رجل آتاه الله علماً ومالاً ، فهو يعمل بعلمه في ماله ، ينفقه في حقه ، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً ، فهو يقول : لو كان لي مثل مال هذا لعملت فيه مثل الذي يعمل . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فهما في الأجر سواء ، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً ، فهو يخبط في ماله ، ينفقه في غير حقه ، ورجل لم يؤته الله علماً ولا مالاً ، فهو يقول : لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فهما في الوزر سواء " . ووالله إن الكلام في هذه المسألة ذو شجون ، وأفضل من تكلم عليها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مفتاح دار السعادة ، وما ذكرته لك هنا أغلب مادته منه ، فله الفضل بعد الله تعالى في ذلك ، وما أنا إلا جامع وناقل فقط ، ولكنها من المسائل التي أرجو منك أيها الطالب أن تقف عليها في الكتاب المشار إليه ، والخلاصة من هذه المسألة إنما هو بيان شيء من فضل العلم ، والله ربنا أعلى وأعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .....
التعليقات