القاعدة العاشرة
أهل السنة يثبتون إثباتًا مفصلاً وينفون نفياً مجملاً
اعلم أن أهل السنة والجماعة تميزوا عن غيرهم بميزات كثيرة جداً ومن أهم ما تميزوا به عن أهل الضلال هو أنهم في إثباتهم للصفات يثبتون إثباتًا مفصلاً وفي نفيهم ينفون نفيًا مجملاً وهذه هي بعينها طريقة القرآن ، وقبل الدخول في الاستدلال لهذه الطريقة نوضح أربع مصطلحات مهمة .
الأول : قولهم ( الإثبات المفصل ) يعنون به أن تثبت صفات الكمال لله تعالى على وجه التفصيل بحيث ينصب الإثبات على كل صفة بعينها ، كالدليل الذي يثبت صفة اليدين على حدة ، وصفة الوجه على حدة ، وصفة العلم على حدة وهكذا .
الثاني : قولهم( النفي المجمل ) يعنون به أن تنفى صفات النقص عن الله تعالى على وجه العموم لا على وجه التفصيل ، كقوله تعالى : } ليس كمثله شيء { فهذه الآية تنفي مماثلة المخلوقات لله تعالى فالله ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وكقوله تعالى : } فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون { أي ليس لله ند في كل ما ذكر ، وكقوله تعالى : } هل تعلم له سميا { أي سميًا يساميه فيما هو من خصائصه ، وكقوله تعالى : } سبحان الله عما يصفون { وكل آية فيها كلمة ( سبحان ) فهي من قبيل النفي المجمل والتنزيه المطلق .
والثالث : الإثبات المجمل : ويعنون به أن تثبت صفات الكمال لله تعالى على وجه العموم لا عـلى وجه التفصيل وذلك كقوله تعالى : } ولله الأسماء الحسنى { ، وكقوله تعالى : } ولله المثل الأعلى { أي الوصف الأعلى .
والرابع : النفي المفصـل وهي أن تنفى عن الله تعالى صفات النقص بعينها بحيث ينصب النفي على هذه الصفة بعينها كقوله تعالـى : } لم يلد ولم يولد { ، وكقوله : } لا تأخذه سنة ولا نوم { ، وكقوله تعالى : } ما اتخذ صاحبة ولا ولدًا { إذًا صارت عندنا أربع مصطلحات ، إثبات مفصل وإثبات مجمل ، ونفيٌ مفصل ونفيٌ مجمل ، إذا علمت هذا فاعلم أن القرآن أتى بهذه الأنواع الأربعة ففيه نفي مجمل ومفصل وفيه إثبات مجمل ومفصل وبالاستقراء ثبت أنه يأتي بالإثبات المفصل والنفي المجمل أكثر من ذكره للنفي المفصل والإثبات المجمل ، وهو ما نريد تقريره في قاعدتنا هذه ، واعلم أن هذه الطريقة هي الطريقة السليمة والمنهج القويم في باب الأسماء والصفات والذي دل على ذلك عدة أمور :
الأول : أن هذه هي طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وكذلك هي طريقة القرآن ومن المعلوم بالضرورة أن خير الهدي هو هدي الكتاب والسنة فالرسل تثبت لله الصفات على وجه التفصيل وتنفي عنه صفات النقص على وجه الإجمال .
الثاني : أن هذه الطريقة فيها لزوم الأدب مع الله تعالى وذلك أن العرب إذا نفوا الصفات نفوها على وجه الإجمال وإذا أرادوا مدح أحدٍ مدحوه بما معه من الصفات على وجه التفصيل ، والقرآن نزل بلغة العرب التي يفهمونها ، ولذلك لو مدحت ملكا وقلت : أنت لا يساميك ملك من ملوك الدنيا ثم بدأت تعدد صفاته من الكرم والحلم والقوة والحنكة في الحكم لكان هذا الكلام له وقع كبير في نفس الملك ، لكن لو قلت : أنت لست بزانٍ ولست بلص ولست بسارق ولا خباز ولا بقال ، وأنت محق في هذا كله لعد ذلك منك سخرية واستهتارًا وقد يعاقبك عليه ولله المثل الأعلى وكل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به وهذا منها .
وأما النفي المفصل فاعلم أن الله تعالى لا ينفي صفة على وجه التفصيل إلا لأن بعض الناس وصفه بها فقد وصفته اليهود والنصارى بالولد فنفاه ، ووصفته اليهود بالعجز والتعب والنوم فنفاه ، ووصفه المشركون بأن له شريك في الملك ووليٌ من الذل فنفاه وهكذا . وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم فعلى العكس من ذلك فهم يثبتون إثباتًا مجملاً وينفون نفيًا مفصلاً ويجعلون الله تعالى موجودًا بشرط الإطلاق أي موجود بلا صفة وقد علم بصريح العقل أن الوجود المطلق لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجودٍ في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان ، فهم لا يصفون الله تعالى إلا بالنفي المحض المجرد عن الإثبات ، فيقولون : إملأ الدنيا نفيًا لكن لا تثبت ولا صفة واحدة ، وهذه الطريقة ضالة توصل أصحابها إلى أعظم الكفر وأعظم التعطيل وأعظم التشبيه فإنهم شبهوا الله تعالى بالمعدومات والجمادات والممتنعات ، وعطلوه عن صفات الكمال ونعوت الجلال ، فالواجب على المرء أن يلزم طريقة السلف فإنها طريقة القرآن والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، والرد على أهل هذه الطريقة مذكور بالتفصيل في كتب شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية ، وابن القيم فراجعـه إن شئت ، وفي ذلك قال الناظم :
إثباتنا جل الصفات مفصلٌ والنفي يجمل يا أخا الإيمان
والله تعالى أعلى وأعلم .
التعليقات