كل معطلٍ ممثل وكل ممثلٍ معطل
هذه العبارة تعرفك الترابط بين مذهب التعطيل وبين مذهب التمثيل ، وأي المذهبين أسبق للآخر ، إذا علمت هذا فاعلم أن هذه القاعدة مكونةٌ من شقين : الأول : ( كل معطلٍ ممثل ) . والثاني : ( كل ممثلٍ معطل ) .
أما الأول : فاعلم أن هذا المعطل لم يصل إلى درجة التعطيل إلا بعد أن صعد درجة التمثيل وبيان ذلك ، أنه قام في رأسه أنه لو أثبت الصفات لله تعالى لاستلزم ذلك أن يكون الله تعالى مماثلاً للمخلوقات ، فلو أثبتنا له اليد لصارت مثل أيدي المخلوقين ، ولو وصفناه بالرجل والاستواء لاستلزم ذلك أن يكون مثل المخلوقين فماذا نفعل ؟ أسلم طريقةٍ في ذلك أن ننفي هذه الصفات التي توهم المماثلة بخلقه ، فنفوها وعطلوها والسبب في ذلك هو الفرار من ربقة التشبيه كما زعموا فهذه شبهتهم وهذا زعمهم ، فالمعطل لم يصل إلى التعطيل إلا بعد أن قام في رأسه محذور التمثيل ، فهو مثل أولاً ثم عطل ، فلذلك نقول كل معطلٍ ممثل ، ولنضرب مثلاً على الأشاعرة ، فهم ينفون الصفات الخبرية بحجة أنهم لو أثبتوها لاستلزم ذلك تشبيه الله بخلقه ، فيقولون الصفات العقلية لا تستلزم التشبيه فنثبتها وأما الصفات الخبرية فإنها تستلزم التشبيه فالواجب نفيها ، وكذلك المعتزلة لم ينفوا الصفات كلها إلا لقيام محذور التشبيه في رؤوسهم لكن هذا المحذور لم يقم عندهم في إثبات الأسماء فقالوا : نثبت الأسماء لأن إثباتها لا يستلزم التشبيه وننفي الصفات لأن إثباتها يستلزمه ، فالأشاعرة والمعتزلة مثلوا أولاً ثم عطلوا . وأما الجهمية النفاة فإنهم قالوا : بل إثبات الأسماء يستلزم التشبيه فالواجب نفيها فنفوا جميع الأسماء والصفات لأن إثباتها يستلزم تشبيه الله تعالى بخلقه ، وأما غلاة الغلاة منهم فقالوا : لو سلبنا عن الله تعالى الصفات لاستلزم ذلك أن يكون مماثلاً للمعدومات ، فالواجب هو سلب النقيضين لأننا إن وصفناه بالإثبـات شبهناه بالموجودات وإن وصفناه بالنفي شبهناه بالمعــدومـات فنسـلـب النقيضـين فنقول لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل . . . فأنت ترى أن هذه الطوائف لم تقع فيما وقعت فيه من التعطيل إلا بعد أن اعتقدت أن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه يقتضي تشبيهه بخلقه ففروا من التشبيه إلى التعطيل ، إذًا علمت بعد هذا صدق هذه العبارة أن كل معطلٍ ممثل . أما أهل السنة والجماعة فهم الذين سلموا من هذه الشبه بقولهم إن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات فقالوا نصِف الله تعالى بما وصف به نفسه ولا نعتقد أنها مماثلة لصفات المخلوقين . لأن المعاني والأوصاف التي ذكرها الله تعالى في كتابه لم يذكرها مطلقةً وإنما ذكرها مقيدة مضافةً إلى نفسه الكريمة ومن المعلوم كما مضى أن الصفة تكون مناسبة للموصوف لائقةً به . هذا بالنسبة إلى الفقرة الأولى .
وأما الفقرة الثانية : وهي قولنا : ( كل ممثل معطل ) فهي تحتاج إلى شيء من التوضيح ، وهو أن الممثل يعتقد أن الصفات التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم ووصف بها نفسه أنها مماثلةٌ الصفات لمخلوقين ، فيده سبحانه كأيدينا ورجله كأرجلنا وعينه كأعينـنا ، وهكذا تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ، فهم في هذا الاعتقاد - أعني اعتقاد مماثلة صفات الله تعالى لصفات خلقه - عطلوا ثلاثة أمور :
الأول : أنهم عطلوا النص الذي أثبت هذه الصفة بخصوصها عن كماله الواجب وعن المراد منه ، ذلك أن هذه النصوص لا تفيد المماثلة وإنما تفيد صفاتٍ لا ئقةٍ بالله تعالى ، لا تماثل صفات المخلوقين ، فإذا قالوا : بأنها تفيد مماثلة صفات الله لخلقه فقد عطلوا هذه النصوص عن المراد بها وعن حقيقتها ، فإذا قالوا : إن يد الله كأيدينا فقد عطلوا النصوص التي أثبتت صفة اليد ، عن المراد منها ، وإذا قالوا : إن سمع الله تعالى وبصره كسمعنا وبصرنا فقد عطلوا النصوص التي تثبت صفتي البصر والسمع بخصوصها ، وهكذا فهذا هو التعطيل الأول .
والثاني : أنهم إذا اعتقدوا هذا الاعتقاد فإنهم قد عطلوا النصوص التي تنفي مماثلة الله تعـالى لخلقـه إجمـالاً ، كقـولـه تعالى : } ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير { ، وكقوله تعالى : } ولم يكن له كفوًا أحد { . فإذا قلنا إن صفاته كصفاتنا فقد عطلنا هذه النصوص عن معناها الواجب لها لأنها تقضي أن الله تعالى لا يماثله شيءٌ ، فكيف نقول بل له مماثلٌ في الصفات هذا القول تكذيبٌ لهذه النصوص وكفرٌ بها - والعياذ بالله تعالى - ، هذا هو التعطيل الثاني .
وأما التعطيل الثالث : فأنهم إذا قالوا : هذا القول فإنهم قد عطلوا الله تعالى عن كماله الواجب له فالله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وصفاتنا ليست بعليا ، فإذا مثلنا صفات الله تعالى بصفاتنا فقد عطلناه عن كماله الواجب له جل وعلا ، هذا هو التعطيل الثالث . وبعد هذا عرفت صدق قولنا ( أن كل ممثلٍ معطلٍ ) و( كل معطلٍ ممثل ) إذا علمت هذا فنقول من باب زيادة الإيضاح أن كلاً من المعطلة والممثلة اتفقوا في شيء واختلفوا في شيء ، فأما الشيء الذي اتفقوا فيه فهو الطريق الذي توصلوا به إلى إثبات المماثلة ، فهم يقولون : إن اتفاق الأسماء يستلزم اتفاق الصفات ولما اتفقت أسماء صفات الله تعالى مع أسماء صفاتنا فإنه يلزم من ذلك أن تكون صفاته كصفاتنا ، إلى هنا وهم متفقون، فكلهم نتج عندهم أن صفات الله كصفاتنا للاتفاق في الاسم ، لكنهم اختلفوا في الرضا بهذه النتيجة فأما أهل التمثيل فقد رضوا بها ورأوا أنها هي الواجبة وهي الأسلم ، فمثلوا ، وأما أهل التعطيل فخافوا منها وأبوا أن يكون الله تعالى كخلقه ولم يجدوا إلا أن يعطلوا الله تعالى عن الصفات فعطلوا ، فكلٌ من الفريقين سلكوا طريقًا واحدًا حتى نتج من هذه الطريق نتيجةٌ ثم افترقوا فمنهم من رضي بهذه النتيجة وهم أهل التمثيل ، ومنهم من لم يرض بها وهم أهل التعطيل ، والله تعالى أعلى وأعلم .
التعليقات